لم يشهد العالم في تاريخه الحديث قضية أثرت على كافة وجوه الحياة البشرية كالوباء الذي يعاني منه منذ مطلع العام. فمثلا لم تؤد الحربان العالميتان، وهما من اوسع ما واجهه العالم من قضايا، لغلق دور العبادة ووقف ارتياد الكنائس أو المساجد. كما لم ينجم عنها انقطاع التواصل الاجتماعي حتى بين الأرحام والأقرباء والأصدقاء.
ولم تخل شوارع المدن من الحركة بشكل كامل. كما لم يحدث ان شعر الإنسان بعجزه عن التصدي للخطر الذي يهدد حياة البشر. ربما حدث شيء من ذلك في العام 1918 عندما انتشرت الانفلونزا الاسبانية، ولكن ليس بالمستوى الذي يحدث هذه الايام. ولم تنحصر آثار الوباء بالجوانب المادية فحسب، بل ان السجال تواصل حول الدين والفكر والثقافة، باتجاه تغيير ما كان يعتبر لدى الكثيرين من الثوابت.
ويبدو ان شخصا واحدا فقط في هذا العالم لم يتأثر بشيء مما حدث، ولم يغير قناعاته او مواقفه، وهو الرئيس الامريكي الذي سيسجل التاريخ انه فريد من نوعه في تفكيره وسياساته، وسيسجل ان الشعب الامريكي اختار لرئاسة بلده مخلوقا مختلفا عن بقية البشر. وجاء قراره مؤخرا بوقف دعم منظمة الصحة العالمية بدعوى انها منحازة للصين، ليضيف للتقزز العام من سياسات الرئيس الامريكي ومواقفه وقراراته. وثمة رأي عام ان الوباء الحالي اظهر فشل امريكا في قيادة العالم. فقد كان الوباء اكبر من ان يستوعبه ترامب او يتعاطى معه بسياسات فاعلة. واصبح على الولايات المتحدة ان تدفع ثمنا بشريا باهظا لهذا الفشل الاداري والسياسي المروع، بتسجيلها ثلث الاصابات العالمية، وتحول نيويورك التي تحتضن الامم المتحدة وكل البعثات الدبلوماسية الدولية لدى المنظمة الدولية، الى بؤرة مرعبة للوباء.
في الأيام الثلاثة الأخيرة احتفى العالم المسيحي بعيد الفصح بانماط مختلفة تماما عما اعتادها. فلم يتوجه المصلون للكنائس، بل لم يخرجوا من بيوتهم. وللحفاظ على روح المناسبة، اقتصرت صلوات الجمعة العظيمة في الكنائس على القس الذي قام بالطقوس العبادية بمفرده في المكان المخصص له، وتم بث ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون. وكذلك فعل الكثير من أئمة المساجد المسلمين. فقد حضر بعضهم المسجد يوم الجمعة لإلقاء الخطبة واداء الصلاة وبث بعض مقاطع ذلك عبر الانترنت. ولم يحظ ضحايا الوباء بما هو معتاد من مراسم التشييع والدفن. فقد توفي الكثيرون بدون ان يحضر وفاتهم او تشييعهم او دفنهم احد من اقربائهم، كل ذلك من اجل منع انتشار الوباء. حرقت جثثت عشرات الآلاف من الضحايا، بينما دفن المسلمون موتاهم بدون غسل مباشر يلامس اجساد الموتى، بل دفنوا ملفوفين باكياس بلاستيكية. وهنا تأكد ان الحفاظ على الحياة يحظى باولوية على بقية الامور، حتى الاحكام الدينية. وبدا عالم الدين عاجزا عن الاجابة على تساؤلات الكثيرين، وبعضها فقهي وآخر عقيدي وفكري. وتخلى رجل الدين المسلم والمسيحي واليهودي، عن دوره الريادي في التعاطي مع قضايا المجتمع، ليقدم الطبيب للتعاطي مع الناس. واذا كان ثمة درس من هذه السابقة فمفاده سيادة العقل وحضوره لدى القطاعات المسؤولة في المجتمع. فالدين اصبح دوره في التصدي للوباء ثانويا.
هذه الافكار حضرت في ذهن عالم الدين، وكذلك لدى الموبوئين انفسهم. فالشخص المصاب بالمرض هرع للمستشفى وليس للمسجد، لعله يجد شفاءه هناك. يقول البروفيسور جون رايت من معهد برادفورد لبحوث الصحة: انه البحث الأقصى استعجالا في الذاكرة: اننا نهرع لانقاذ حياتنا.
الانتقادات لسياسات ترامب خارج أمريكا تتضاعف عند مناقشة سياساته الداخلية منذ أن بدأت أعراض الوباء تنتشر في الأراضي الأمريكية. فقد نشر تغريدات كثيرة تقلل من شأن المرض وخطره، فمر سبعون يوما قبل البدء بإجراءات للحد من انتشار الوباء
تقول الكاتبة الهندية المعروفة، أرونداتي روي في مقال نشرته بصحيفة «فايننشال تايمز»: «من الذي يستطيع ان ينظر لأي شيء بدون ان يتخيل انه يعج بهذه الآفة التي لا تُرى ولا تموت، والمزودة بوسائل سحب (شفط) بانتظار ان تلتصق برئتنا: مقبض الباب، علبة بالدولاب، كيس خضار؟ من يفكر بتقبيل شخص غريب؟ ركوب باص؟ من يستطيع ان يفكر بمتعة عادية بدون ان يقيّم خطرها؟ من منا لم يصبح متخصصا ملفقا في علم الاوبئة؟ او عالم فيروسات؟ او احصائيا او نبيا؟ هل هناك عالم او طبيب لا يصلي سرا من اجل حدوث معجزة؟ أي قديس لا يستسلم، في السر على الأقل؟ وحتى مع انتشار الفيروس، من يستطيع ان لا ينتشي بزغردة الطيور في المدن؟ بالطواويس تتراقص عند اشارات الضوء وبالصمت في السماء؟».
ما اكثر الكتاب الغربيين الذين يكتبون مقالاتهم اليومية في اجواء نفسية محبطة حقا، بعناوين مثل: «أشعر انني اخيرا اتحطم، ولا اعرف السبب»، و «هذا الوباء سلبني شعوري بالسيطرة»، «العالم على حافة الافلاس»، «الازمة حولت نظرتنا لما هو مهم»، «خيارات صعبة بين الموت والحياة والاقتصاد»، «الفيروس يدفع التاريخ ليتجاوز نقطة التحطم».
العالم لن يكون بعد انتهاء الوباء كما كان قبله. هذا ما يتردد كثيرا هذه الايام. فقد فرض الوباء ثقافة جديدة على البشر، ابتداء بالشعور بضعف الانسان امام الطبيعة والارادة الالهية، مرورا بالاعتراف بضعفه في مقابل اضعف المخلوقات، وصولا الى تعمق الشعور بحتمية نهاية المخلوقات مستقبلا.
وبالإضافة لذلك فسيكون هناك حقائق جديدة في مقدمتها فشل امريكا في تقديم انموذج انساني لقيادة العالم. فبدلا من تشجيع الجهات الجادة في مجال مكافحة المرض وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية، قدمت الولايات المتحدة مثالا سيئا بإعلان ترامب عزمه على وقف دعمها. كما ان قيامها في مطلع هذا الشهر بما اسماه ياس جيزيل، وزير داخلية ولاية برلين بأنه «عمل من أعمال القرصنة الحديثة» أثار ازمة سياسية واخلاقية بين ضفتي الاطلسي بالاستحواذ على مواد طبية كانت في طريقها الى فرنسا. وقال جان روتنر رئيس منطقة غراند إيست الفرنسية إحدى أكثر مناطق البلاد تأثرا بوباء كوفيد ـ 19، إن تلك المواد تم شراؤها من الصين، وقام الأمريكيون بشرائها على مدارج المطارات الصينية قبل إقلاع الطائرات لتسليمها. وقالت سلطان برلين انها قالت إنها أمرت بالأقنعة لقوة الشرطة. هذه الانتقادات لسياسات ترامب خارج أمريكا تتضاعف عند مناقشة سياساته الداخلية منذ ان بدأت أعراض الوباء تنتشر في الأراضي الأمريكية. فقد نشر تغريدات كثيرة تقلل من شأن المرض وخطره، فمر سبعون يوما قبل البدء بإجراءات للحد من انتشار الوباء، الامر الذي جعل الولايات المتحدة بؤرة ساخنة لانتشاره، حتى بلغت الاصابات الامريكية ثلث المجموع العالمي.
العالم سيتغير حتما بعد السيطرة على الوباء: تحالفاته، توازناته، اولوياته، توجهاته العلمية واولوياته الطبية، موقع الكوارث الطبيعية في مشاريع العمل المشترك العالمية. وسيكون العالم العربي من بين الدوائر التي سيشملها ذلك التغيير. ويكفي الاشارة للقرار السعودي بوقف اطلاق النار في اليمن لمدة اسبوعين بسبب الوباء، واطلاق سراح سجناء كثيرين في بلدان عديدة، لتأكيد استحالة بقاء اوضاع العالم العربي كما كانت عليه قبل الوباء. هل سيحدث تغيير ام لا؟ لا احد يستطيع التنبؤ بما يحدث على صعيد العلاقات بين الحكومات والشعوب، ولكن الامر المؤكد ان القبضة الامنية للأنظمة العربية على شعوبها ستضعف كثيرا. كما ستتراجع قوة «اسرائيل» التي كانت تطمح ان تسوق نفسها كقوة علمية خارقة. فقد تمكن الوباء من الانتشار في كل الاراضي المحتلة، حتى أصاب وزراء الاحتلال. ان من الصعب تحديد اشكال التغير ومجالاته، خصوصا ان الوباء في انتشار مستمر في المنطقة والعالم، ولكن قوع التغيير الذي لن يكون محصورا بمجال اصبح حتمية متوقعة، وسيشمل كافة نواحي التعامل الدولي السياسية والاقتصادية والعسكرية والامنية، وبتأكيد أكبر، العلمية والطبية.
د. سعيد الشهابي – كاتب بحريني – صحيفة القدس العربي
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة