حسابات اللعبة المعقدة بين روسيا وتركيا في شمال سوريا عنوانها اغتنام الفرص ومرونة التحالفات.
النبش في أحقاد الماضي
منذ أن سعت تركيا إلى إقامة قواعد عسكرية في مناطق الباب وإعزاز وجرابلس وعفرين على حدودها مع سوريا، بات التوغل في الجغرافيا السياسية السورية مكشوفا وموجها لطعنات تستهدف وحدتها، حيث لم يمض وقت طويل حتى تبين أن مآل مؤتمر سوتشي وآليات أستانة سيلاحقهما آجلا أم عاجلا الفشل الذريع، وأن بنود نتائجهما لن يكتب لها النجاح، ما دامت السياسة التركية تتحرك بدوافع توسعية تحركها أطماع تاريخية تعارضها إرادة روسية في دعم القوات السورية لاسترداد إدلب من الفصائل المسلحة المتمردة.
باريس – تواصل تركيا التنصّل من التزاماتها باحترام الأراضي السورية وهي ليست المرة الأولى التي تنتهج فيها هذه السياسة، حيث سبق لأنقرة أن اتفقت مع واشنطن في 17 أكتوبر 2019 بشأن المنطقة الآمنة في شمال شرق سوريا، وسارعت إلى استغلال ورقة اللاجئين السوريين وإعادة توطينهم في مناطق الأكراد سعيا منها لإعادة قلب الموازين الديمغرافية في الشمال السوري، كما حصل تماما مع تهجير سكان حي الوعر في حمص إلى مناطق ما يسمى درع الفرات.
وبهذه السياسة تحاول تركيا تعزيز حضورها العسكري المباشر على الأراضي السورية بإيجاد وكلاء محليين لها. ولذلك فإن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى روسيا تعد مؤشرا على أن العلاقات بين البلدين دخلت نقطة انعطاف جراء التوتر المتصاعد في محافظة إدلب.
وتنذر هذه الخطوة الأخيرة بأن الحسابات الحالية في الشمال السوري يمكن أن تدخل نفقا مسدودا بسبب تداعياتها حول العلاقات الروسية -التركية، بالإضافة إلى تداعيات تدفق اللاجئين والمهاجرين على الأمن الأوروبي، كما أن المناطق العازلة المقترحة لن تستطيع استيعاب 2.5 مليون سوري عالق، يساهم في ذلك نهج تغيير التركيبة السكانية وإقامة مناطق آمنة ما لبثت أن أثارت توترات سياسية وأمنية بين السوريين وفق شروط تركية خاصة تعرقل مسار التسوية السياسية في سوريا.
أهداف التصعيد التركي
يبرر النظام السوري تقدم قواته في مناطق خفض التصعيد الأربع، التي ضمت شمال سوريا، والغوطة الشرقية، وشمالي ريف حمص وجنوب سوريا، بانقلاب السياسة التركية ميدانيا على الاتفاق الذي تم التوصل إليه في سبتمبر 2018، والذي جعل أنقرة ضامنة لعدم التصعيد من جانب الجماعات الإرهابية.
ويستند النظام السوري أيضا على عجز تركيا مجددا في تنفيذ اتفاق أنقرة في 16 سبتمبر 2019، والقاضي بمكافحة الإرهاب في إدلب، واحترام وحدة الأراضي السورية، وكل ما يتعلق بمستقبل مناطق شرق الفرات. لذلك، فإن مرد سياسة العسكرة الحالية في شمال سوريا يكشف تراجع مصداقية التنظيمات الجهادية والمسلحة التي كانت تدعمها أنقرة بعد أن مالت توازنات القوى الميدانية إلى غير صالحها، وعدم تطبيق تركيا التزاماتها المتعلقة بإدلب.
ويتمثل الجانب التركي الخطير في إقامة تمركزات عسكرية وقواعد دائمة ومباشرة على الأراضي السورية منذ 24 أغسطس 2014، عبر ما سار يعرف بعملية درع الفرات، ثم ازدادت هذه الوتيرة في عام 2019 – 2020، حيث برز التغلغل العسكري التركي في كل من ضواحي بلدتي ‘’الراعي’’ و’’أخترين’’ على أشده، والذي كشف النقاب مؤخرا عن قيام تركيا بإنشاء أكثر من 30 مركز تدريب ومراقبة عسكرية ومعسكرات في كل من ‘’جبل عقيل غرب الباب’’ و‘’جبل مرمى الحجر’’، غرب مدينة جرابلس.
ومن بين الأسباب الرئيسية للأزمة تأسيس ما يعرف بالـ”الجيش الوطني السوري” في 30 ديسمبر 2017، تمهيدا لعملية غصن الزيتون، وكان عبارة عن نواة مكونة من 30 جماعة ضمت فيلق الشام، وكتيبة سمرقند، وكتيبة المنتصر بالله، وكتيبة الفاتح السلطان محمد، وكتيبة السلطان مراد، وفيلق حمزة، والجبهة الشامية، وأحرار الشرقية.
ثم استمر حشد واستقطاب التنظيمات والفصائل المسلحة في شمال غرب سوريا ضمن ما عرف في عام 2019 بتحالف “الجبهة الوطنية للتحرير”، حيث تم إسناد الدور الأكبر لفصيل ‘’فيلق الشام’’ في التنسيق بين عناصرها، وبدا ذلك واضحا في تمركز هذا الفصيل مع القوات التركية في المنطقة منزوعة السلاح حول إدلب في 8 مارس 2019.
وسعت تركيا في نفس الوقت إلى تعزيز صلاتها بعناصر تركمانية سورية تدين بالولاء القومي لها. ومن ثم، يتبين إصرار تركيا على إعادة تنظيم هذه الفصائل عندما أعلنت مرة أخرى تكوين ما يسمى بالـ”الجيش الوطني السوري” في أكتوبر 2019، والمكون من بعض بقايا الجيش السوري الحر، وجماعات تنتمي إلى جبهة التحرير الوطني بحسب ما أعلنه عبدالرحمن مصطفى رئيس الحكومة السورية المؤقتة لما يعرف بالهيئة العامة للائتلاف الوطني السوري المعارض، بحيث تتخلى مكوناتها عن مسمياتها الأصلية، وتقبل العمل تحت ما أصبح يعرف بوزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة.
ومنذ ذلك الحين طفح الكيل بالإعلان عن تكوين “الجيش الوطني الجديد” الذي أصبح يضم أحرار الشام، وجيش الإسلام، وصقور الشام، والفرقة الساحلية الأولى، وجيش إدلب الحر، وثوار الجزيرة، والجيش الثاني، واللواء 51، وجيش الأحفاد، ولواء الفاتح، وصقور الشمال، وكتيبة السلطان سليمان شاه، وفرقة معتصم، وفرقة حمزة، ولواء حمزة، ولواء السلطان مراد، وجيش الناصر، والفرقة التاسعة، والفرقة الثالثة والعشرين، بحيث تم تنظيمهم في ما صار يعرف بالكتائب الرابعة والخامسة، والسادسة والسابعة، وتم إشراكها في القتال في منطقتي ‘’تل الأبيض’’ و’’رأس العين’’ ومؤخرا دخلت في اشتباك مع قوات النظام السوري والفصائل الموالية له، ما يرجح أن تركيا تريد إقامة جدار عازل لها عبر هذه الفصائل الموالية لها.
الأزمة السورية مرصد لقياس صمود العلاقات الروسية التركية الحبلى بضغائن تاريخ من الحروب والصراعات
وتكشف هذه التطورات أن الهدف الذي تسعى إليه أنقرة يكمن في توحيد المناطق الخاضعة لها، ووضعها تحت سيطرتها المباشرة بداية من عين العرب، وتل الأبيض، ثم عين عيسى وصولا إلى دريك والرج، أملا في تصدير المشكلة الكردية الداخلية إلى الجوار السوري.
وتعمد أنقرة حاليا في كل مناطق جرابلس والباب وإدلب إلى وضع مدارسها وأنظمة التعليم فيها تحت إشراف وزارة التعليم التركية، حيث تقوم بذلك كل من مديرية الإشراف التربوي والتعليمي في محافظة غازي عنتاب، ومديرية كيليس التعليمية، بالإضافة إلى أنها قامت بالسيطرة على وضع شركات الكهرباء والبريد والصرافة ووضعها تحت تصرفها المباشر.
كما فرضت أنقرة تعلم اللغة التركية من الصف الابتدائي حتى الصف الثالث الثانوي، وتحاول جامعة حران فتح فرع لها في مدينة الباب، ووضعت امتحان “يوس الخاص بفحص مستوى اللغة التركية عند المرشح” كشرط للقبول فيها، فيما تم الإعلان من طرف مجلس البلدية في أعزاز عن توجيه تغيير العمل ببطاقات الهوية السورية وتعويضها ببطاقات هوية تركية في كل من إعزاز وجرابلس والباب، كما تم تغيير المواقيت المحلية بالتوقيت التركي. هذا في الوقت الذي قامت فيه السلطات التركية متعمدة بتهجير الأكراد من مناطقهم، ودفعهم نحو إقليم كردستان العراق وتوطين مهاجرين فارين مكانهم وتمكينهم من بيوتهم، ما يخلق نوعا من انفراط اللحمة الوطنية بين مكونات المجتمع السوري ذاته.
ويمكن القول إن الأوضاع السائدة في شمال سوريا مرشحة للتصعيد في ظل سياسات التتريك والعثمنة الجديدة وفرض حساباتها المتداخلة في النزاع السوري مع أجندات دولية وإقليمية، سعيا من أنقرة لبسط النفوذ والهيمنة.
وأسفر هذا الصراع مؤخرا عن فقدان الجيش التركي 55 جنديا منذ بداية فبراير 2020 في ظل إصرار النظام السوري على استعادة أكبر حجم من الأراضي الخاضعة للفصائل الموالية لتركيا، وضمان الاتصال بين الطريقين السريعين الاستراتيجيين “أم 4” و”أم 5” اللذين يمران عبر إدلب شرقاً وجنوباً. وربما كان حجم الخسائر التي تكبدها الجيش التركي، هو الذي دفع بوتين إلى السماح لتركيا بشن ضربات رمزية قوية على أهداف نظام الأسد، وإعلان تركيا مرارا وتكرارا في نفس الوقت أنها لا تريد الانجرار نحو مواجهة روسيا في سوريا.
إجمالا، بدأ تأجيج الصراع في شمال سوريا منذ أن هاجرت معظم الميليشيات السورية المسلحة إلى إدلب، ونجحت هيئة تحرير الشام في السيطرة عليها وجعلها في خدمة التوسع التركي واستغلالها كورقة في المفاوضات مع كل من الجانب الروسي والإيراني والسوري، بحيث تنصلت أنقرة من تقزيم دور الحركات المتطرفة وإخراجها من إدلب، مقابل غض الطرف الروسي والإيراني عن التحركات التركية شرق الفرات ضد الأكراد.
ويحاول أردوغان التنفيس عن مشاكله الداخلية بتحريك مشاعر قاعدته الانتخابية القومية واللعب على أوتارها عبر كل من سوريا وليبيا في محاولة منه لامتصاص الانقسامات التي تعصف بحزبه، وفي ظل إقالة وتسريح أكثر من 130.000 موظف يشتبه في معارضتهم لسياسته، فضلا عن تداعيات الاعتقالات المستمرة بين أفراد الجيش التركي. كما أن محدودية الخيارات المطروحة أمامه، دفعته مجددا إلى اللعب بأوراق الهجرة واستغلال التذمر الحاصل في تركيا منها لدفع لاجئين محتملين إلى الحدود التركية – اليونانية.
وأشارت الأمم المتحدة إلى أن أعدادهم وصلت إلى 13.000، فيما أعلنت وزارة الداخلية التركية أن عددهم فاق 76.000 شخص، وقد تم تنظيم رحلات أغلبها بواسطة باصات تابعة للمجالس البلدية التي يديرها حزب العدالة والتنمية، وهو ما كشف عن حجم العلاقة الابتزازية القائمة على التصعيد في شمال سوريا، مقابل الحصول على المزيد من الامتيازات المالية والسياسية من طرف الاتحاد الأوروبي ( تبلغ حاليا 6 مليارات دولار).
العلاقات الروسية – التركية
إسقاط أنقرة للطائرة الروسية مثل نقطة تحول
شكلت الأزمة السورية مرصدا لقياس العلاقات الروسية – التركية منذ إسقاط تركيا للطائرة الروسية في 24 نوفمبر 2015، أعقبتها سلسلة من الردود الروسية العقابية في مجال التعاون الاقتصادي، معلنة بداية تهاوي حجم التبادل التجاري الذي كان قد وصل إلى 35 مليار دولار في عام 2013، حيث مورس الحظر ومنع التصدير وتم إيقاف الشركات التركية من العمل في الأراضي الروسية، ما أعاد إلى الأذهان حجم التكلفة التي عانت منها الإمبراطورية العثمانية في حروبها وأزماتها مع جارتها روسيا القيصرية.
وفتح تدهور العلاقات مع واشنطن بعد محاولة الانقلاب في يوليو 2016، ومحاولات أردوغان الخروج من عزلته الدولية، الباب من جديد لمجموعة من التفاهمات عقب اعتذار تركيا لروسيا وفتح صفحة جديدة، حيث أصبحت روسيا تمد تركيا بحوالي 60 في المئة من احتياجاتها الطاقية، فيما شكل خط “السيل التركي” منصة أنابيب ضخمة تجعل من تركيا قطبا عالميا في ضخ الغاز الروسي، والتي أضيفت إلى خط ‘’السيل الأسود’’ العابر للبحر الأسود، وأنبوب النفط ‘’سامسون – جيهان’’.
بالإضافة إلى كل هذا تمت الموافقة على تشييد محطة ‘’أكويو’’ للطاقة النووية الذي تقوم به شركة ‘’روس أتوم’’ في مدينة مرسين جنوب تركيا، والتي من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في عام 2023. وبالتالي فُتح المجال لتعاون غير مسبوق، شمل تعاونا استراتيجيا في المجال العسكري، توج بشراء منظومة الدفاع الصاروخي (أس 400).
إن حسابات اللعبة المعقدة بين روسيا وتركيا في المنطقة، لا يمكن عزلها عن محددات اغتنام الفرص، ومرونة التحالفات سواء من حيث الفرص المتاحة أو من حيث قيود الجغرافيا السياسية، حيث قام الطرفان بتنظيم علاقتهما الجديدة من خلال القمة الروسية – التركية في 22 أكتوبر 2019، وحددت من خلالها روسيا لتركيا مواقع نفوذ بين رأس العين وتل أبيض ومناطق تل رفعت ومنبج (تغطي عملية نبع السلام منطقة تشمل تل أبيض ورأس العين بعمق 32 كلم) وتم الاتفاق على تسيير دوريات تركية – روسية مشتركة غرب وشرق منطقة عملية نبع السلام في حدود 10 كلم، إلا أن هذا التفاهم يواجه اليوم تحديا كبيرا في ظل اتهام روسيا لتركيا بعدم احترام مكوناته ومخرجاته.
ومن مظاهر خروج تركيا عن التفاهمات والتنسيق بشأن الملف السوري، استمرار التدخل السافر في الشأن الداخلي السوري، عبر قيامها باحتلال الشريط الحدودي التركي – السوري ودعمها للجماعات الإرهابية والفصائل السورية المسلحة والمتمردة، حيث أصبحت السياسة التركية الداخلية والخارجية تحيط بالأزمة السورية إحاطة السوار بالمعصم، فهي في رعايتها للتنظيمات العسكرية المتطرفة تحاول أيضا تغيير الطبيعة السكانية للكثير من المناطق في شمال سوريا.
وظلت بعض مناطق شمال سوريا تحت سطوة جهاديين تسعى تركيا لتوظيفهم في سياستها، ما يجعل هذه التنظيمات في الأمد المنظور مرتهنة بها كليا. ومن ثم كان التوسع في استراتيجية إقامة نقاط مراقبة عسكرية داخل الأراضي السورية، ومحاولة صرف الأنظار عن أزمات الداخل، بخاصة المشكلات المتعلقة بتراجع قيمة الليرة التركية، وتداعيات أزمة الانتخابات البلدية، وتدهور العلاقة مع حلف الناتو، وتأزمها مع دول الجوار العربي. ومن ثم منحها تنظيم داعش فرصة جديدة لإعادة تنظيم صفوفه، لاسيما أن الغزو التركي لشمال سوريا خفف إلى حد بعيد الضغوط الكردية العسكرية، ويمثل هدرا كبيرا لمختلف الجهود الدولية خلال الأعوام الماضية ضد تنظيم داعش ويفسح المجال لإعادة ترتيب أوراقه.
كل هذه التطورات بدأت تلقي بثقلها على العلاقات الروسية – التركية وتطرح أسئلة حول مجمل التوافقات والتنازلات التي تمت إلى حد الآن، هل كانت استراتيجية؟ أم هي مجرد لعبة تكتيكية أملتها ظروف كل من حسابات موسكو وأنقرة الذاتية والموضوعية؟ ومن ثم ما مدى صمودها أمام ما يجري من تصاعد في التوترات، وإمكانية تطورها من عدمه؟
إن الوضع في شمال سوريا بات يتطلب ترتيبا جديدا، قد يدفع إلى تحول الشريكين الحاليين إلى خصمين لدودين أو يخضع للمراوغة والمناورة من كلا الطرفين. فزمن التوترات بين البلدين أثبت أنه متأرجح، يظهر ويختفي، ثم يعود من جديد، وأن حدود التقارب والتباعد تخضع لقاعدة دق إسفين متواصل بين تركيا وواشنطن من جهة، والتجاذبات الإقليمية من جهة أخرى، وذلك وفق سياسة تجيدها موسكو في حساباتها: ليس هناك عدو دائم، ولا صديق دائم، بل ثمّة مصالح إما قديمة وإما متجددة، هي التي تحدد طبيعة الأصدقاء والخصوم معا في إدارة المصالح والضغوط المتبادلة.
د. حسن مصدق – أستاذ في جامعة فانسين باريس 8- صحيفة العرب اللندنية
المقال يعبر عن رأي الكاتب والصحيفة