ما الذي سيجنيه السوريون في إدلب من “الممر الآمن” الذي تعهده الجيشان الروسي والتركي بعد قمة فلاديمير بوتين – رجب طيب أردوغان؟ “درع الربيع” تحولت إذلالا للرئيس التركي الذي أحبط الكرملين محاولة التفافه على بوتين، حين اقترح الأول قمة رباعية مع فرنسا وألمانيا، ثم أطلقت طهران بالون اختبار بعرض قمة تركية إيرانية سورية، مفتاحا للتطبيع بين دمشق وأنقرة من بوابة وقف النار في إدلب، بشروط النظام السوري.
صحيح أن بوتين منح أردوغان فرصة لحفظ ماء الوجه، بدعوته إلى موسكو بعد تلكؤ وتردد متعمدين لإبلاغه أنه ليس وحده من يقرر ضرورات عقد قمة وموعدها، والصحيح كذلك قبل أن يتجدد خلاف متوقع بين الروس والأتراك على خارطة “الممر الآمن”، أن الرئيس التركي رضخ لشروط الكرملين بعد ساعات من المفاوضات. فلا النظام السوري سيتراجع إلى خط التماس ما قبل إطلاق أردوغان “درع الربيع”، ولا إصرار الروس على الاستمرار في الحرب على “التنظيمات الإرهابية” يتزعزع، والأهم أن أنقرة اعترفت بعد القمة بوجود هذه التنظيمات في شمال سوريا. ما يعني عمليا، أن دعوة الرئيس التركي شريكه “اللدود” إلى الابتعاد عن طريقه في إدلب، باتت في خبر كان.
بلمحة سريعة عن فصول التكاذب، روسيا التي تحارب الإرهاب وتمدد عمر نظام متهم بحروب إبادة، تتقاسم معه اتهامات بارتكاب جرائم، ولا حاجة ربما للتذكير بتفاخر بوتين علنا بعد تدخله العسكري في سوريا بأنها ساحة مناسبة لاختبار أسلحة روسية جديدة. ولا حاجة للتذكير بالضربات الكيماوية التي أبادت مدنيين سوريين تحت ستار الحرب على الإرهاب. إنه حليف الكرملين الذي صمد بالغارات الروسية وبراميل البارود، وبميليشيات “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله”، وبمرتزقة من باكستان وأفغانستان، حرصا على السيادة السورية.
الضلع الآخر في المثلث، إيران سعت إلى حماية المراقد الشيعية وانتهت إلى إنشاء ضاحية جنوبية أخرى تطوّق دمشق. لم تكذب طهران في حمايتها النظام السوري بمعارك “الممانعة”.
أما حصة أردوغان من اقتسام التكاذب مع الروس والإيرانيين، فلا يمكن تجاهلها، وهو الذي يعلنُ أنه يلبي نداء من الشعب السوري للتدخل، فيما يلبي المعسكر الآخر طلب نظام الأسد، وكلهم حريص على السيادة السورية. ألم يكن ذا دلالة تطوع أردوغان عشية لقائه بوتين بتذكير الأخير بأن له على الأرض السورية، قاعدتي طرطوس وحميميم، وله ما يشاء، فلماذا يعترضه في إدلب؟
يغيب القرار العربي عن المذبحة الكبرى في سوريا. كل شيء مباح للروس والإيرانيين والأتراك، ومعهم الإسرائيليون الذين يتفهم الكرملين حربهم على ميليشيات طهران وحلفائها.
بين الجميع، وحده أردوغان يشكو من الجميع. وإن كان آخر معاركه الصغرى التنديد بجامعة الدول العربية لأنها رفضت لفظيا التدخلات الخارجية في سوريا. فبين مآثره وهو ينادي بحماية المدنيين في هذا البلد، أنه وجه ضربة كبرى إلى صدقية من يقاتلون النظام وبينهم الجيش السوري الحر، حين استخدم آلافا منهم للقتال في ليبيا، فالتصقت بهم صفة المرتزقة. بديهي أن كل الأسئلة تسقط حين يتبين أن أردوغان من حيث لا يدري، قدم خدمة بما فعل، للنظام في دمشق، وخدمة أخرى للروس، إذ خلصهم من عناء “استئصال” كثيرين في إدلب.
وإن كان التراشق بالاتهامات بين موسكو وأنقرة حول خرق اتفاق سوتشي، يقدم مثالا آخر عن فصول التكاذب في مأساة سوريا والاتجار بمعاناة شعبها يمينا وشمالا، لا تكتمل الحقائق إلا بتساؤل آخر عمن يكذب في “معركة اللاجئين” والمشردين: أردوغان أم كل دول الاتحاد الأوروبي؟ وإن لم يكن المال لإغاثة النازحين هو ما يعني الرئيس التركي في المواجهة مع الأوروبيين، هل يقنع نفسه بقدرة الاتحاد على الضغط لإرغام بوتين على إنهاء المذبحة وفرض حل سياسي في سوريا، أيا تكن رغبة الأسد؟
الجواب لا هذا ولا ذاك، ومشهد تبادل اللكمات في البرلمان التركي يرسم واقع الانقسام في تركيا على مشاريع التدخل في سوريا وليبيا وغيرهما. باختصار نزاعات موسمية مع الأوروبيين واستعداء للعرب وخلافات مع الروس الذين يديرون المذبحة وفصول التكاذب بشروطهم.
وأما الأميركيون الذين أخفوا الشماتة بأردوغان، المتشاطر حينا مع موسكو وحينا آخر مع واشنطن، وتعاطفوا معه بعد سقوط العشرات من العسكريين الأتراك قتلى في شمال سوريا، فلعلهم لم ينسوا بعد كم مرة هددهم الرئيس المشاكس بإغلاق قاعدة أنجرليك، قبل أن يتجاهل مطلبهم عدم شراء منظومة الصواريخ الروسية أس- 400.
في زمن المواجهة، استدار أردوغان ليطلب من الإدارة الأميركية تزويده صواريخ باتريوت! وكلما استدار سريعا يلهث وراء مزيد من التهور.
زهير قصيباني – كاتب وصحافي لبناني – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة