مرَّت أيام سهلة على إيران في سوريا في مجمل سنوات العقد الماضي. وأغلب رجالها في سوريا، أياً كانت صفاتهم الرسمية، تعودوا أن يكون مسارهم في طول البلاد وعرضها مثل مسار سكين في قالب من الزبدة. حيث الأبواب مفتوحة، والمسؤولون في مناطق سيطرة النظام على اختلاف مراتبهم، ينتظرون زوارهم الإيرانيين على الأبواب، وهم لا يملكون رفاه سؤال القادمين عن رغباتهم والنقاش فيها، بل جلّ طموحاتهم عرض الفرص والخيارات أمام القادمين، وغالباً فإنَّ الزوار لا يحتاجون مسؤولاً متابعاً للوصول إلى حاجاتهم في واحدة من ولايات إيران خارج خط الحدود، كما وصف إيرانيون سوريا التي يعرفونها في نحو عقد ونصف عقد من السنوات الماضية.
سهولة أيام رجال إيران ومهامهم وحركتهم وتأثيرهم لدى النظام ذهبت كلها تقريباً، ولن تعود في المدى المنظور، كما يجزم كثيرون، وبعضهم يقول إن عودتها بحاجة إلى معجزة كبرى، وهذا أمر صعب في الأفق الظاهر في مسارات القضية السورية.
أبرز أسباب التحول إحساس السلطة الحاكمة في دمشق أنها لم تعد بحاجة إلى إيران، إذ صارت خارج احتمالات إسقاطها بالقوة، ليس بسبب دعم حلفائها فقط، بل نتيجة ما صارت مقتنعة به من تراخي وعدم جدية خصومها لإسقاطها، وأنها قادرة على اللعب معهم في هوامش متعددة عبر فقرة «تحسين العلاقات»، بالتوازي مع حقيقة ربما كانت الأهم في هذا الجانب، وهي ضعف وتهميش المعارضة، وتراكض قسم منها للحصول على دور في مساعي التسوية من أي طرف جاءت.
وبين أسباب التحول تصعيد «خصوم» إيران، ولا سيما الإسرائيليين والأميركيين، معارضتهم لوجودها وميليشياتها في سوريا، وقد تجاوزت إسرائيل العمليات العسكرية في الهجوم على قواعد وأماكن انتشار القوات الإيرانية إلى قتل كبار رجال طهران، وفق ما حدث مؤخراً في عملية تدمير القنصلية الإيرانية بدمشق.
كما أنه من بين الأسباب تضخم ذات الإيرانيين في سوريا، وخاصة لجهة الإحساس بالقوة المفرطة نتيجة وجود قواتهم ومخابراتهم والميليشيات الوافدة التابعة لهم، إضافة إلى ما تمَّ بناؤه من هياكل طائفية وأدوات محلية مسلحة، وما حصلت عليه من امتيازات ومكاسب، وكلها أمور عزَّزت رغبة إيران في تخفيف ما تقدمه من أموال ومساعدات، يعرف الإيرانيون أنَّ أغلبها يذهب إلى جيوب أركان النظام، وتجاوزت إيران ما سبق إلى مطالبة النظام بسداد ديونه لها، التي تتجاوز مبلغ 50 مليار دولار.
وسط العوامل والصعوبات الناهضة في مواجهة إيران وسياساتها، يطل السؤال الأساسي عن مستقبل إيران في سوريا، وعما يمكن أن تفعله وتقوم به من خطوات تحفظ لها موقعها ومصالحها، التي اشتغلت عليها مع الأسد الأب لعقدين من السنوات، وتابعتها مع ابنه لاحقاً، وطورتها لبنة وراء لبنة، وصولاً إلى ما صارت عليه اليوم، حيث إيران حاضرة ومؤثرة في أغلب مجالات الحياة السورية.
غير أن الإجابة عن أسئلة إيران في سوريا تتطلب أن يسبقها تذكير بالأهمية الاستثنائية التي تحتلها سوريا في استراتيجية إيران، وأبسط تعبيراتها ما يوصف بـ«الهلال الشيعي»، وتمثل سوريا الجزء الحيوي والضروري، إذ تصل بين العراق ولبنان، ما يضيف إلى أهمية سوريا بالنسبة لإيران، وكله في جملة أسباب جعلت طهران تتدخل مباشرة وبصورة غير مباشرة، وأن تعمل وتشجع أطرافاً، بينهم روسيا والميليشيات الحليفة من العراق ولبنان وأفغانستان وغيرها، للمجيء إلى سوريا والقتال إلى جانب النظام ومنع سقوطه، وقدّمت له مساعدات وقروضاً هائلة، رغم ما تعانيه من مشكلات وعقوبات، وكله يكرس صعوبة، بل استحالة تخلي إيران عن وجودها ونفوذها في سوريا، ولو أدت الأمور إلى دخولها في معارك وحروب مع أي كان، لأن وجودها هناك قضية مصير.
ووسط حتمية حفاظ إيران على وجودها في سوريا، والسعي إلى تطويره بكل ما تملك من إمكانات، ما يعني أن إيران ستلجأ إلى تغييرات شكلية في سياساتها ووجودها وفي علاقاتها مع سوريا والآخرين، لإقامة توافق بين مصالحها وما يحيط بها من ظروف ومعطيات مستجدة، وخاصة ما يتصل بوجودها، حيث سيعاد النظر بحجمه وخريطة انتشاره، سواء في مستوى التشكيلات أو الشخصيات، ويحاط كله بمزيد من السرية والتكتم، وتخفف مظاهره العلنية، ويحدّ من عدد الوافدة، إيرانية أو حليفة وافدة، لتأخذ التشكيلات والشخصيات المحلية مكانها، وهذا من الناحية العملية له مزية إضافية، إذ هو أقل تكلفة أيضاً، وخاصة في مناطق الشرق السوري في محيط دمشق.
وتركز إيران في المرحلة المقبلة من سياستها في سوريا على تخفيف مظاهر الوجود الإيراني، واحتكاكاته مع مختلف الأطراف، بما فيه حلفاؤها الروس والسوريون، وسيتم إدارة العلاقات بصورة مركزية مدققة، يتم من خلالها تجنب مزيد من الاختلاف والتناقض، والتخفيف ما أمكن من فرص المواجهات مع الخصوم، وخاصة الإسرائيليين، وخلق قنوات تواصل واتصال عبر الروس وغيرهم لتجنب الأسوأ.
فايز سارة – كاتب سياسي سوري – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة