تدور العواصف حول سوريا، وبعضها يضرب بلدان جوارها، فيصيب الأخيرة في داخلها على نحو ما يحدث في تركيا جارة سوريا في الشمال، والعراق في الشرق، والأردن في الجنوب، ولبنان في الغرب، وتصيب العواصف إسرائيل عبر الصراع بين حكومة بنيامين نتنياهو وخصومها، إضافة إلى ما جلبته الحرب العدوانية على الفلسطينيين المتواصلة منذ أشهر من تداعيات. وتلف العواصف منطقة شرق المتوسط في حرب إسرائيل على غزة، التي ولدت لها امتدادات بينها مواجهات جنوب لبنان بين إسرائيل وميليشيات «حزب الله»، والتي يمكن أن تتحول إلى حرب شاملة في أي لحظة، وتشهد المنطقة تحولات كبيرة في الصراع الإيراني – الإسرائيلي والذي شهد سنوات من قصف إسرائيلي على مواقع إيرانية وصديقة في سوريا من دون رد مباشر، قبل أن يدخل الطرفان مسار الرد المتبادل بعد القصف الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي جاء بعده هيجان إيراني بمئات المسيّرات والصواريخ من دون نتائج ملموسة، ثم قصف إسرائيل مطار أصفهان، وسجل الطرفان فيهما قواعد اشتباك جديدة، يمكن أن تمنع حرباً شاملة بين الطرفين، ولو لفترة قصيرة مقبلة.
ومن الطبيعي أن العواصف التي تضرب الجوار السوري، وإقليم شرق المتوسط، لا تستثني سوريا، بل تشملها عبر ما يحصل فيها من تطورات داخلية، ونتيجة ما يصيبها من تداعيات المواجهات الإقليمية ذات الصلة، والتي تزيد عمق واتساع النتائج، وترفع حجم التحديات أمام بلد ما زال منذ ثلاثة عشر عاماً يعيش حروباً وصراعات متعددة.
ويمثل تدهور الوضع السوري في جوانبه المختلفة الحالة الأصعب والأشد خطراً مقارنة بحال بقية بلدان المنطقة؛ إذ التطورات فيه مفتوحة ومتسارعة، ولأن نتائج ما يحدث تتجاوز الخطر على بعض وكل جوانب الحياة وصولاً إلى تهديد مستقبل الكيان ووحدة الشعب السوري، وأبرز تعبيراته تقاسم الأرض والسكان القائم، إذا تجاوزنا موضوع اللاجئين في الشتات، واعتبرنا أن قسماً كبيراً منهم سوف يعود في المستقبل، وبخاصة الموجودون في دول الجوار.
وتمخضت حالة التقاسم عن ثلاثة كيانات، تتولى السيطرة فيها ثلاث من سلطات الأمر الواقع، حيث النظام السوري في الساحل، وخط الوسط السوري شاملاً المدن الرئيسية من الشمال إلى الجنوب، و«الإدارة الذاتية» في شمال شرقي سوريا، تمتد على أجزاء من محافظات الحسكة والرقة ودير الزور وحلب، ثم منطقة الشمال الغربي، وتشمل إدلب وأجزاء من أرياف حلب واللاذقية، وتسيطر عليها تركيا بالشراكة مع أدوات محلية أبرزها الحكومة المؤقتة التابعة لائتلاف المعارضة، وحكومة الإنقاذ التابعة لـ«هيئة تحرير الشام» بزعامة رجل «القاعدة» أبو محمد الجولاني.
القواسم المشتركة في المناطق الثلاث غياب مشروع سياسي مشترك، وكل منها يسعى نحو هدف البقاء في السلطة تحت أي شروط بالاتكاء على طرف من القوى الإقليمية والدولية والارتهان له، وترتبط الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية في مناطق سيطرة الأمر الواقع بالهدف الأساسي، وتتخذ القرارات، وتتواصل الإجراءات بالاستناد إليه من دون النظر إلى أوضاع السكان الذين تتنافس سلطات الأمر الواقع في ادعاء تمثيلهم والدفاع عن مصالحهم الراهنة والمستقبلية، مما جعل المحصلة سلطة أمنية متشددة، غارقة في انسداد سياسي، وأزمة اقتصادية – اجتماعية، وسط مظاهر فساد وفقر وجوع، وفلتان أمني مرفق بصراعات بينية، وأخرى داخل كل كيان وكل واحدة من سلطات الأمر الواقع.
ورغم أن النظام السوري ليس الأفضل في سلطات الأمر الواقع، فإنه الأقدر فيها بما استولى عليه من بقايا الدولة السورية وإرثها، وأخذ يسخره في خدمة هدفه في الاحتفاظ بالسلطة أياً تكن السياسات والأساليب والنتائج، التي تطور فيها نمط خاص من علاقات نظام دمشق مع الحليفين الروسي والإيراني، يقوم على منحهما المزيد من المزايا والفرص لقاء ما قدماه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً لأجل حمايته واستمراره، وأدى هذا النمط من العلاقات إلى ظهور النظام بمثابة تابع لإيران وروسيا، وحوّل الاثنين إلى قوتي احتلال في سوريا.
ووسط مجموعة من تطورات داخلية وخارجية تتعلق بتحالف نظام دمشق وطهران وموسكو، ظهرت تغييرات وتبدلات، تعكس خلافات بين أطراف التحالف وداخلها، بعضها يتعلق بوجودهم المشترك في سوريا، وبعضها يتصل بأبعاد إقليمية ودولية، منها ثلاثة أمثلة: ذهاب روسيا إلى الحرب على أوكرانيا، والتطورات الأخيرة في المواجهات الإسرائيلية – الإيرانية، والضغوطات العربية والدولية على نظام دمشق لإجراء تغييرات في سياساته، لا سيما في موقفه من الحل السياسي للصراع السوري، وفي علاقاته مع إيران.
وكان في جملة نتائج ما حصل ذهاب كل واحد من الأطراف الثلاثة إلى خطوات وإجراءات تصاعدت في العام الماضي، كان بينها لجوء الحليفين الروسي والإيراني إلى تقليص مساعداتهما للنظام، ومطالبته بتسديد ديونه لهما، وتسجيل اعتراضات على بعض سياساته، وانفرد الإيرانيون في سعيهم نحو توسيع حضورهم ودورهم بمعرفة النظام ومن دونها، وتطوير قواعد البقاء الطويل والعميق في سوريا عبر خطوات، منها نشر التشيّع، وتأسيس ميليشيات سورية تتبع «الحرس الثوري»، وتأمين طرق إيران من العراق إلى الساحل السوري وإلى لبنان عبر دمشق، وتأمين سيطرة أقوى في المناطق ذات الحساسية الخاصة، ولا سيما في محيط دمشق.
وأثار ما سبق أوساطٌ داخل النظام وفي حاضنته، فأخذت تظهر موجة من تدهور علاقات النظام مع الحليفين، لكن الأشد مع إيران، وانتقاد ما تقوم به في سوريا، ولجأت السلطات السورية إلى إجراءات تقيد الحركة الإيرانية الحرة في سوريا، وصولاً إلى إعاقة تنفيذ بعض الاتفاقات بين الطرفين، وعدم إظهار اهتمام رسمي لائق بما أصاب إيران على يد الإسرائيليين في سوريا من عمليات قصف قواعد ومقرات، وصولاً إلى اغتيال مسؤولين إيرانيين وتدمير القنصلية في دمشق، إضافة إلى مقاطعة أنشطة إيرانية تقليدية في دمشق، منها «يوم القدس» مؤخراً، وعزوف النظام عن اتخاذ مواقف داعمة وقوية من الحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها.
خطوات نظام دمشق كانت تحت عيون حلفائه، أياً كانت أهدافها، سواء الضغط على الحليفين لمزيد من المساعدات لمواجهة ما يعاني من مشاكل، أو مغازلة أطراف عربية وغربية تتقدمها الولايات المتحدة، وإذا كانت روسيا نتيجة طبيعة وجودها ودورها في سوريا، وغرقها في حرب أوكرانيا، أقل حساسية في الرد؛ فإن الأمر بالنسبة لإيران مختلف، نتيجة موقع سوريا في استراتيجية إيران الإقليمية، والتكلفة الكبيرة التي دفعتها طوال سنوات، وما حققته من أهداف، وما تحملته من إذلال القصف الإسرائيلي لمواقعها وميليشياتها في سوريا من دون أن ترد، مما يجعل إيران أمام تحدي مواجهة حركات حليفها نظام دمشق، وخياراتها في الرد كثيرة ومفتوحة.
فايز سارة – كاتب وسياسي سوري – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة