العداء الإيراني لإسرائيل لا علاقة له بالبعد الديني بل هو صراع سياسي له أبعاد إستراتيجية أكثر عمقا.
صدام لا يتخطى الخطوط الحمراء
هناك حقيقة يحاول الكثيرون التغافل عنها وهي أن حرب غزة ليست حربا عربية إسرائيلية، ولا حربا يهودية إسلامية، بل هي حرب مركبة تشهدها المنطقة لأول مرة، يتحالف فيه الفكر الإخواني مع الفكر الشيعي الميليشياوي مقابل العامل الديني القومي الإسرائيلي، في غياب تام للعامل القومي العربي.
هذه التوليفة المركبة وضعت الحكومات العربية أمام موقف لا تحسد عليه، بين رغبة شعوبها في ضرورة الدفاع عن كل ما هو فلسطيني، وتخوفها من تبعات انتصار هذا التحالف الإخواني – الشيعي.
وهنا قد يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: أي ّمن الطرفين يسخّر أحدهما الآخر في التحالف الإخواني – الشيعي، هل إن حماس هي من تسخّر إيران لصالح القضية الفلسطينية أم إن إيران تسخّر حماس لمصالحها؟
بمتابعة الأداء السياسي لإيران نرى أنها لا تسخّر حماس فقط لمصالحها وإنما تسخّر الكثير من الفصائل المسلحة والكثير من الدول وحتى الشعوب لمصالحها في المنطقة، فقد استطاع النظام الإيراني خلال ما يقارب النصف قرن من تسويق نفسه للشعوب المسلمة بطريقتين:
الأولى، كونه المدافع الأول عن القضية الفلسطينية باعتبارها القضية الأولى للمسلمين، فاكتسب تعاطفا إسلاميا كبيرا خاصة بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان.
الثانية، كونه الممثل الحقيقي لشيعة العالم، فاستقطب شريحة واسعة من الشباب الشيعي شكّل منهم أذرعا مسلحة له في معظم الدول التي يتواجد فيها الشيعة.
هل إن حماس هي من تسخّر إيران لصالح القضية الفلسطينية أم إن إيران تسخّر حماس لمصالحها؟
وبمتابعة السياسات الخارجية لإيران نجد أنها في الوقت الذي تتمتع فيه بعلاقات جيدة مع أغلب الدول الأوروبية والآسيوية، يشوب علاقاتها بالدول المسلمة الكثير من التوتر.
أما علاقاتها مع الولايات المتحدة فعليها الكثير من علامات الاستفهام، يذهب البعض لإدراجها وفق نظرية المؤامرة في أن العلاقات المتوترة ظاهريا بينهما تخفي تحالفا إستراتيجيا في الخفاء، حيث تتطابق مواقف الدولتين في الكثير من الملفات المثارة في المنطقة، كالملف الأفغاني والملف العراقي. لكن الذي ينفي ما يذهب إليه إصحاب نظرية المؤامرة هو أن هناك الكثير من الملفات تتناقض توجهات الدولتين إزاءها، وهو ما ينفي وجود تحالف خفي بينهما، إضافة إلى أن من يعرف طبيعة الإسلام السياسي وطريقة أدائه يدرك أن هذا الفكر غير قابل للتحالف مع أيّ طرف خارجي، إلا أن بإمكانه التخادم مع الفرقاء في مساحة المصالح المتبادلة، فقد استطاعت إيران بالفعل تحديد مساحة مصالحها في المنطقة بشكل لا تتقاطع فيه مع مساحة المصالح الأميركية، وتوجيهها لتتطابق في النتيجة مع المصالح الأميركية فيها.
وخلال العقود الماضية من حكم النظام الإيراني وما رافقها من تطورات دولية وإقليمية تولدت عند إيران ثلاثة مستويات من الطموح نستطيع ايجازها على النحو التالي:
طموح تصدير الثورة الإسلامية لدول المنطقة.. وقد بدا طموحها هذا بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية مباشرة.
طموحها بإعادة لعب دور الدولة الصفوية والدولة البهلوية مع القوى العظمى، وهو دور شرطي المنطقة.
بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية تولد عندها طموح التحول إلى قوة إقليمية مؤثرة.
هذه المستويات الثلاث من الطموح لديها كانت تصطدم دائما مع وجود قوة إقليمية أخرى وهي إسرائيل والتي تتمتع بعلاقات إستراتيجية مع الولايات المتحدة وأغلب الدول الأوروبية، وتمتلك أضخم ترسانة عسكرية في المنطقة. فأصبح إضعاف هذه القوة سياسيا وعسكريا واقتصاديا أولوية إيرانية قصوى. ومن هنا ينطلق سر العداء الإيراني لإسرائيل.
بمعنى آخر إن العداء الإيراني لإسرائيل ومحاولات إضعافها لا علاقة لهما بالبعد الديني للموضوع كون إسرائيل تحتل أرضا مقدسة إسلاميا، بل هو صراع سياسي له أبعاد إستراتيجية أكثر عمقا وبعدا من الجانب العقائدي. مع ذلك استطاعت إيران استغلال البعد الديني لهذا الصراع وتسخيره ليخدمها في هذا الصراع.
بمتابعة الأداء السياسي لإيران نرى أنها لا تسخّر حماس فقط لمصالحها وإنما تسخّر الكثير من الفصائل المسلحة والكثير من الدول وحتى الشعوب لمصالحها في المنطقة
كل المعطيات تشير إلى أن إيران لا تستهدف القضاء على إسرائيل مثلما تدعي، وإنما تهدف إلى إضعافها فقط، فوجود إسرائيل داخل المنطقة العربية يعتبر هدفا إستراتيجيا لإيران لا يقل أهمية عن وجود اليمن الحوثي ولبنان حزب الله والعراق الميليشياوي فكلها تهدف إلى إضعاف الدول العربية المجاورة لها وبسط نفوذها عليها. لذلك فإن وجود إسرائيل في المنطقة هي حاجة ماسة لإيران شرط أن تكون أضعف منها وأقوى من الدول العربية، وهو ما يفسر حرب الاستنزاف التي تمارسها إيران ضد إسرائيل طوال العقود السابقة.
تدرك إيران أن القوة الإسرائيلية في المنطقة سببها الحقيقي هو تحالفها الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، وهو ما يقلل من احتماليات تحولها إلى قوة اقليمية مؤثرة.. لذلك تحركت إيران ومنذ عقود على خطين:
الأول، استنزاف إسرائيل عسكريا واقتصاديا من خلال تشكيل ما يسمّى بمحور المقاومة المتمثل بحزب الله في لبنان والفصائل المسلحة في غزة، أضيف اليهما في السنوات الاخيرة الفصائل المسلحة في العراق والحوثيين في اليمن.
الثاني، ممارسة سياسة فرّق تسد بين الولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال إثارة فوضى “تخلق” ظروفا إقليمية معقدة تحوّل إسرائيل من حليف يضمن مصالح واشنطن في المنطقة، إلى عبء يثقل كاهل الإدارات الأميركية، ويهدد مصالحها ومصالح الغرب فيها، ليؤدي في النهاية إلى إضعاف التحالف بينهما. وما أحداث غزة الأخيرة إلا دليل على ما نقول، حيث نشهد ولأول مرة تغيرا في المواقف الغربية والأميركية من الأداء الإسرائيلي فيه.
فقد تعمدت إيران بأن يكون توقيت انطلاق عملية “طوفان الأقصى” قبل الانتخابات الأميركية ببضعة أشهر، ليخلق ضغطا سياسيا على الإدارة الأميركية تجعلها تتعامل بارتباك مع أي حرب محتملة قد تندلع جراء تلك العملية. وهو ما نجحت فيه.. فالارتباك الأميركي إزاء حرب غزة وضغوطاتها على إسرائيل لإنهاء هذه الحرب بأسرع وقت واضحة لأيّ مراقب، وهو ما تسبب بمشاكل حقيقية بين إسرائيل وأميركا لم نشهدها منذ نشوء إسرائيل في المنطقة.
بمتابعة السياسات الخارجية لإيران نجد أنها في الوقت الذي تتمتع فيه بعلاقات جيدة مع أغلب الدول الأوروبية والآسيوية، يشوب علاقاتها بالدول المسلمة الكثير من التوتر
مقابل هذا التوتر في العلاقة الإسرائيلية – الأميركية نرى أداء إيرانيا مركبا يمكن ملاحظته من موقفين:
موقف إيران الرسمي من حرب غزة والذي أكدته منذ أيامها الأولى بتبرئة نفسها من أيّ علاقة بـ”طوفان الاقصى”، ثم تأكيدها على عدم مسؤوليتها عن استهداف الفصائل المسلحة لأهداف إسرائيلية وأميركية وبأن قرارات هذه الفصائل ذاتية لا علاقة لها بها. وهو ما يوحي برغبتها في الظهور بمظهر الطرف الداعي لتهدئة توترات المنطقة والمساهم في أمنها واستقرارها.
ولم تقف إيران عند هذا الحد، بل حاولت الظهور بمظهر الوسيط لإنهاء هذه الحرب، في الزيارات المكوكية التي قام بها وزير خارجيتها في دول المنطقة للتباحث حول سبل وقف القتال. وتحاول إيران من خلال هذه المواقف إعطاء صورة للغرب وأميركا بأنها طرف يمكن التفاهم معه على أكثر الملفات تعقيدا، مما يعزز من مكانتها الدولية وزيادة ثقة المجتمع الدولي بها.
موقف أذرعها في المنطقة: ففي الوقت الذي تقدم فيها إيران نفسها كطرف منسجم مع التوجهات الدولية، تحاول الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال ما تقوم به أذرعها من عمليات ضدهما، سواء حزب الله أو الحوثيين أو الفصائل المسلحة العراقية.
رغم وضعهما في سلة حرب غزة، إلا أن أسباب استهداف أذرع إيران لإسرائيل تختلف عن أسباب استهدافها للقواعد الأميركية. فاستهدافها لإسرائيل يندرج ضمن الرغبة الإيرانية في إضعاف إسرائيل لتبقى هي القوة الإقليمية الوحيدة، بينما يندرج استهداف القواعد الأميركية ضمن الأجندات الإيرانية لإبعاد القوات الأميركية من المنطقة تحقيقا للأهداف التالية:
1- إبعاد الخطر العسكري الأميركي عن حدودها حماية لأمنها القومي.
2- إجبار الإدارة الأميركية في النهاية للجلوس معها والتفاوض حول سبل تقسيم النفوذ بينهما في المنطقة.
3- ضمان تواصلها مع أذرعها في العراق وسوريا ولبنان.
4- وضع دول المنطقة التي تحتمي بوجود القواعد الأميركية تحت ضغط الابتزازات الإيرانية في حال خروج تلك القوات.
رغم وضعهما في سلة حرب غزة، إلا أن أسباب استهداف أذرع إيران لإسرائيل تختلف عن أسباب استهدافها للقواعد الأميركية
إن الرغبة الإيرانية في إخراج القوات الأميركية من العراق وسوريا يرافقها حرص إيراني على عدم إثارة واشنطن ضدها، لذلك لم تلجأ إلى قصف القواعد الأميركية في المنطقة بنفسها، والمرة الوحيدة التي قصفت فيها قاعدة أميركية كانت عقب اغتيال قاسم سليماني، وحتى هذا القصف كان بتفاهم مشترك مع أميركا حسبما صرح بذلك دونالد ترامب الذي أكد أن الإيرانيين اتصلوا بهم وأبلغوهم أن ردهم على اغتيال سليماني سيكون دون إيقاع ضحايا في الجانب الأميركي.
مقابل هذا الأداء الإيراني هناك أداء أميركي مفعم بـ”الرومانسية” تجاهها، فرغم معرفة الإدارة الأميركية بأن إيران تقف وراء استهداف قواعدها بالمنطقة من خلال أذرعها التي تستخدم أسلحتها ولا تتحرك إلا بمعلومات استخباراتية إيرانية وبأوامر منها، إلا أنها تتعامل مع النفي الإيراني لعلاقتها بتلك الهجمات بالكثير من الانفتاح والقبول والمصداقية، لذلك لم تستهدف إيران بشكل مباشر حتى بعد مقتل ثلاثة من جنودها على الحدود السورية – الأردنية… وهو ما يشير إلى وجود تفاهمات متبادلة وقواعد اشتباك بينهما قد تمهد لتفاهمات أكثر مستقبلا.
إن الموقف الأميركي في هذه الحرب يعتبر لافتا بشكل كبير. فمنذ وجودها على الساحة الدولية كقوة عظمى وهي تدير “نتائج” أزمات المنطقة على مبدأ “الحفاظ على التوازنات”، وذلك بخروج الفرقاء دون انتصار واضح أو هزيمة واضحة لأيّ طرف، وكانت دائما تستثني إسرائيل من ذلك المبدأ وتدعمها بشكل مطلق في كل حروبها مع الدول العربية. إلا أنها في حرب غزة تتعامل مع إسرائيل بنفس هذا المنطق، بالحفاظ على مبدأ التوازن بينها وبين خصومها الإسلاميين. يتوضح ذلك من خلال محاولاتها الحثيثة إنهاء هذه الحرب بأسرع وقت على مبدأ لا ضرر ولا ضرار، وهو ما يشير إلى بداية في تغير المواقف الأميركية تجاهها.
إن امتناع الولايات المتحدة عن توسيع الصراع الحالي في غزة وتجنبها الدخول في أي مواجهة مباشرة مع إيران في وقت تتعرض فيها حليفتها الإستراتيجية إسرائيل إلى مخاطر وجودية تؤثر على مكانتها العسكرية في المنطقة، أعطت انطباعا لدى إيران بأن أميركا ليست بصدد الدخول في مواجهة مباشرة معها على المدى المنظور.
يتمتع النظام الإيراني ببراغماتية عالية في التعامل مع واشنطن حول الملفات ذات الاهتمام المشترك في المنطقة، فهو يتخذ سقفا عاليا من الشعارات التي يتبناها داخليا لحشد شارعه خلفه، لكنه يدرك في الوقت نفسه السقف المسموح له دوليا لتحقيق تلك الشعارات. وما مواقفه المتحدية أحيانا والمتهورة أحيانا أخرى إلا لإدراكه حقيقة ثابتة وهي أن وجوده يعتبر حاجة ملحة عند الغرب وأميركا، في وجود نظام عقائدي له تطلعات ثورية تشعر دول المنطقة بتهديدات مستمرة وتدفعها أكثر للانصياع للحماية الأميركية والغربية وتقديم تنازلات سياسية واقتصادية لهما، وهو ما يحصل مع الدول العربية منذ ما يقارب النصف قرن… لذلك فإن النظام الإيراني يدرك أن الغرب وأميركا يدعمان وجوده وديمومته.
ورغم محدودية الرقعة التي اندلعت فيها، ومحاولة الأطراف الدولية عدم توسيعها، فقد تكون حرب غزة من أهم الحروب التي اندلعت في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، فحيثياتها وتفاصيلها ومواقف القوى الإقليمية والدولية منها كفيلة برسم خارطة سياسية جديدة في المنطقة، ونسج شبكة تحالفات جديدة إقليمية ودولية. فإذا انتهت هذه الحرب على مبدأ لا ضرر ولا ضرار، ونجحت إيران في البقاء بعيدة عن الدخول فيها، فسنشهد تحولا في الموقف الأميركي تجاهها بالتفاهم معها حول الكثير من الملفات المثارة، قد يشمل ملف تقسيم النفوذ معها في الكثير من الدول في المنطقة.
أما بالنسبة إلى إسرائيل فستضطر لتوقيع اتفاقيات سلام مع كل الدول العربية بأقل الخسائر الممكنة وتحسين العلاقات معها. وبذلك ستتشكل خارطة تحالفات سياسية جديدة في المنطقة تتكون من محورين. المحور الإيراني المتمثل بإيران وسوريا ولبنان والعراق واليمن، والمحور الإسرائيلي – العربي، لتبقى الولايات المتحدة تمارس سياسة “الحفاظ على التوازنات” في إدارة الازمات المحتملة بين المحورين بما يتناسب مع الحفاظ على مصالحها في المنطقة على المدى الطويل.
أنس الشيخ مظهر – كاتب من كردستان العراق – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة