الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الأميركي بلينكن للمملكة العربية السعودية تأتي ضمن جولة في المنطقة هي الرابعة منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتأتي هذه الزيارة وسط تشابك وحالة سيولة في المنطقة تسببت فيها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي طالت وحصدت أرواحَ الآلاف من المدنيين الأبرياء؛ بينهم الكثير من النساء والأطفال وكبار السن، في قصف عنيف على دور العبادة والمستشفيات والمدارس وأماكن الإيواء وغيرها دون فرز، بل هي حرب عمياء لا تسير وفق قوانين الحرب.
وفي ظل هذا التشابك، تأتي زيارة بلينكن التي سبقتها تصريحات أميركية حول أهميتها، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر، إن هذه الزيارة سوف «تناقش التعاون الاستراتيجي الأميركي/السعودي في القضايا الإقليمية والعالمية ومجموعة من القضايا الثنائية، بما في ذلك التعاون الاقتصادي والأمني»، وبالطبع ترحب المملكة بأي مساعٍ تقوم بها الإدارة الأميركية لبحث التعاون الثنائي، وتحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة، وفي مقدمتها وقف الحرب الإسرائيلية على غزة وبقية بؤر التوتر في المنطقة، ومنها الأزمة الطاحنة في السودان، والعبث بأمن الشريان التجاري الدولي الحيوي في البحر الأحمر، ولذلك نتمنى أن يحمل الوزير بلينكن في حقيبته أفكاراً عملية وقابلة للتطبيق والالتزام بها من جانب إسرائيل وبضمانات أميركية.
الزيارة الراهنة تأتي في سياق مختلف، حيث تجاوز الواقع الحديث عن التهدئة أو إدخال المساعدات، فالأيام الأخيرة شهدت اتساعَ نطاق الحرب، وهي المخاوف التي كانت مُثارة منذ اليوم الأول للعدوان، في محاولة جذب أميركا مرة أخرى للمنطقة، فالتطورات الأخيرة من استهداف عناصر «حماس» في لبنان، وما حدث في إيران، والضربة الأميركية لعناصر من حركة النجباء في العراق، والتطورات في سوريا، والتحركات الحوثية في البحر الأحمر، كل ذلك جعل رقعة الحرب تتسع، وهو ما ستكون له انعكاسات خطيرة على المصالح الأميركية في المنطقة.
في ظني أن من بين ما سيطلبه بلينكن من القيادة السعودية، الضغط على إيران لعدم اتساع نطاق الحرب وعدم تهديد المصالح الأميركية، فواشنطن لا يمكنها عدم الرد على أي تهديد لمصالحها، وفي الوقت نفسه لا ترغب في مزيد من التورط في المنطقة، لذا ترغب في الاعتماد على الدول الحليفة والصديقة، وأمن البحر الأحمر ملف آخر ستتم مناقشته في ظل التهديدات الحوثية لأمن البحر الأحمر، وما تمثله من تهديد للمصالح التجارية الأميركية وللدول الحليفة للولايات المتحدة.
ومن المتوقع أيضاً أن تكون المطالب السعودية حاسمة في التأكيد على الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل لتحقيق أمور عدة؛ منها:
أولاً: وقف الحرب في قطاع غزة وليس مجرد هدنة إنسانية أو تبادل أسرى، بل الوقف الشامل، فهناك قناعة سعودية بأنَّ الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي هو أساس لعدم الاستقرار في المنطقة، ويؤكد ذلك الحرص السعودي المستمر على تقديم مبادرات للحل منذ ثمانينات القرن الماضي وتحويلها لخطط عمل ملزمة.
ثانياً: أمن البحر الأحمر مسؤولية دولية بالتعاون مع الدول المشاطئة، لذلك دعت السعودية، منذ عام 2018م، لإنشاء مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن بالعاصمة الرياض، وفي يناير (كانون الثاني) 2020م، وقّعت 8 دول على ميثاق تأسيس المجلس؛ هي: السعودية، ومصر، والأردن، واليمن، والسودان، والصومال، وجيبوتي، وإريتريا؛ حيث وقع وزراء الخارجية الميثاق تمهيداً لتقديمه لقادة الدول الأعضاء في المجلس لإقراره خلال اجتماع قمة ستستضيفه السعودية.
وبالتالي، سيكون هناك تأكيد سعودي واضح للوزير الأميركي على أن مسؤولية الأمن في البحر الأحمر هي للدول المشاطئة أولاً، ومسؤولية أممية/دولية ثانياً.
ثالثاً: الضغط على إسرائيل لعدم توسع نطاق الحرب لدول أخرى في المنطقة لتداعيات ذلك على مجمل أمن المنطقة، والكف نهائياً عن موضوع تهجير سكان القطاع.
رابعاً: عدم إمكانية الحديث عن اليوم التالي للحرب ما لم تتوقف الحرب، ومن ثم الحديث عن مستقبل قطاع غزة مرهون أولاً بوقف الحرب.
وأعتقد من الضروري أن تكونَ زيارة بلينكن بداية لمراجعة حقيقية لحسابات الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، وأن تكون حساباتها قائمة على الانحياز إلى السلام والعدل واحترام القانون الدولي، وعلى الوفاء بمتطلبات الشراكة تجاه السعودية ودول مجلس التعاون، تلك الشراكة التي بُنيت على الاحترام المتبادل والتعاون منذ لقاء الملك عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ في 14 فبراير (شباط) 1945م، مع الرئيس الأميركي الأسبق روزفلت على متن الطراد «يو إس إس كويسني» في البحيرات المرة، ومنذ ذلك الوقت، تم تأسيس الشراكة على أسس واضحة وثابتة، وهذا الثبات من النهج الذي اختطته المملكة لسياستها، القائم على التمسك بخيار السلام، وتجلَّى ذلك منذ أن طرحت المملكة مبادرة «فاس» للسلام عامي 1981 و1982م، ثم تقدمت بالمبادرة العربية للسلام التي أقرتها جميع الدول العربية في قمة بيروت عام 2002م.
وإذا أرادت الإدارة الأميركية نجاح زيارة بلينكن للسعودية والمنطقة، وإذا رغبت في الاحتفاظ بشراكاتها في المنطقة، والاحتفاظ بدورها راعياً للسلام في الشرق الأوسط في وقت تبحث فيه قوى دولية مناوئة لواشنطن عن موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط.. عليها أن تلتزم الحيادية، وألا تكون مصالح المنطقة ومستقبلها ورقة في الانتخابات الأميركية، وأن تتعامل مع المرض وليس مع العرض كما تفعل الآن، ومرض المنطقة يتمثل في عدم حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يقوم على أساس السلام الشامل، وهو الحل الذي طرحته المبادرة العربية للسلام، والذي يضمن السلام لإسرائيل والاعتراف بها من جميع الدول العربية، مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967م، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية.
وفيما يخصّ المرض لا العرض في تثبيت أمن البحر الأحمر، على أميركا إزالة تهديد الميليشيات المسلحة الموجودة عند مدخل البحر الأحمر، وهذا ما كان يجب أن تفعله واشنطن من البداية، لكنها تقاعست عن استئصال المرض الذي كاد يستفحل.
وعلى واشنطن أن تدرك أنها ليست اللاعب الوحيد في المنطقة، وأن مصالحها ليست محصورة في أمن إسرائيل فقط، وعليها أن تحافظ على علاقاتها مع السعودية ودول الخليج في إطار من المصداقية والمصالح المتبادلة والشراكة المثمرة من دون إذعان أو فرض إرادات، وعليها التيقن بأن دول المنطقة تعرف مصالحها وتستطيع حمايتها، وهي قادرة على التعامل مع جميع القوى في العالم في إطار من الانفتاح المتزن الذي تمارسه بالفعل من دون الانحياز إلا لمصالحها… وإذا تيقنت أميركا من ذلك وعادت لتطبيق الحلول السلمية وفي مقدمتها «المبادرة العربية للسلام» سوف تحقق الأمن لإسرائيل ولشعوب دول المنطقة، وسوف تجد الطريق الصحيح للشراكة مع دول المنطقة القائمة على تعظيم المصالح وفي إطار من الاحترام المتبادل دون إكراه.
د. عبد العزيز بن عثمان بن صقر – رئيس مركز الخليج للأبحاث – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة