من السابق لأوانه الحكم على حراك السوريين بالفشل في الامتداد إلى دمشق إلا أن كسر حاجز الخوف والرعب كان النقطة الإيجابية التي سجلها الحراك الجديد وخطوة أولى في مسار تغيير طويل.
طباعة الأوراق المالية لن تغير من حال السوريين
عادت مدينة السويداء السورية إلى نفس الأجواء التي عاشتها قبل 12 سنة، عندما خرج السوريون مطالبين بالتغيير السياسي وبالخلاص من نظام كليبتوقراطي استشرس فساده لينخر جميع مؤسساته، لم تأخذ المطالب الاجتماعية والاقتصادية حينها الأولوية عن المطالب السياسية، إدراكا من السوريين بأن معالجة مشاكلهم مع الفقر وغياب العدالة الاجتماعية والغلاء والتضخم والبطالة لا يمكن أن تبدأ إلا باستئصال العلة.
واليوم وبعدما نجحت العلة في تثبيت سلطتها مستفيدة من تخاذل المجتمع الدولي، عاد النظام مجددا لمعالجة مشاكله الاقتصادية التي لا تنتهي على حساب الذين فشلوا في إسقاطه، ممارسا أسلوب العقاب الجماعي بعد أن ألغي الدعم وتم تعويضه بطبع المزيد من الأوراق المالية التي لا قيمة لها في الأساس، ليتم توزيعها في شكل زيادات لا تغير في حال السوريين شيئا.
لا يختلف تفكير الحكومة السورية عن غيرها من الحكومات المفلسة، إذ كلما واجهتها مشكلة عالجتها بمشكلة أخرى، مع التطبيل والترويج لها على أنها الحل الأمثل، وهو ما ينطبق على ما نقرأه في صحف الإعلام الرسمي التي راحت تصور حيلة طباعة الأوراق المالية على أنها قرار شجاع وجريء، كان لا بد منه لضخ الدماء في عروق الاقتصاد السوري، بعد تحريره من أعباء إضافية أثقلت كاهل الخزينة. ثم يذهب الإعلام السوري بعيدا في تسويق ادعاءات الحكومة عندما يعدد تجارب دول سبقت سوريا في التخلص من أعباء الدعم دون الربط بين قيمة الزيادات المعيشية وأثرها الفعلي على القدرة الشرائية للمواطنين.
قد يصعب تصديق حقيقة أن موظف القطاع الحكومي بسوريا يتقاضى راتبا شهريا بالكاد يعادل ثمن علبة سجائر في بريطانيا، وأن الحد الأعلى للأجر الشهري في سوريا والبالغ 50 دولارا يعادل أجرة أربعة أيام لعامل يومي في قطاع غزة المحاصر، وأن عدد السوريين المسجلين تحت خط الفقر وفق ما قدرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد بلغ نسبة 90 في المئة من إجمالي عدد الموجودين في سوريا.. تكفي هذه المعلومات البسيطة لتصور لنا حجم الضرر الذي لحق بالسوريين وحجم الكارثة الاقتصادية التي تسببت فيها مواجهة “المؤامرة الكونية” حسب الرواية الرسمية.
◙ اليوم وبعدما نجحت العلة في تثبيت سلطتها مستفيدة من تخاذل المجتمع الدولي، عاد النظام مجددا لمعالجة مشاكله الاقتصادية التي لا تنتهي على حساب الذين فشلوا في إسقاطه، ممارسا أسلوب العقاب الجماعي
ربما كانت رواتب المسؤولين في سوريا سرا من أسرار الدولة، لكي لا تضيف المزيد من الحساسية بتسليطها الضوء على مدى رفاهية الحاكم وبؤس حال المحكوم، ولكنها لا بد أنها ضعف ما يتقاضاه الموظف العادي بآلاف المرات على الأقل، مقابل جهودهم الجبارة في خدمة الوطن والمواطن ومواجهة المؤامرة الكونية التي تستهدف سوريا ونظامها.
سافر الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو مارس الماضي للالتقاء بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يروج لفكرة تأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد يكسر هيمنة الدولار وقيود العقوبات الغربية، من أجل الظفر بالتفاتة اقتصادية روسية تحرك المياه الراكدة وترفع من قيمة إنجاز العودة إلى الحضن العربي، وتحدث من هناك عن توقيع شراكة روسية – سورية تجمعهما في أربعين مشروعا استثماريا يشمل قطاعات مختلفة لم تر النور.
لكن أليس من المفترض أن تكون سوريا أول المدعوين لفكرة بوتين بصفتها أكبر المتضررين من النظام الحالي؟ لماذا لا تتجه حقائب رجال الأعمال الروس صوب سوريا لترويج لفكرة نصرة الضعفاء واستقطاب من عانوا الظلم الغربي وعقوبات الخزانة الأميركية؟ ربما لا تزال سوريا بالنسبة إلى بوتين مجرد قاعدة عسكرية بميناء بحري مطل على البحر المتوسط، أو ربما كانت في وقت مضى منصة دعائية نجحت في إثبات فعالية ميليشيا فاغنر وميدانا تجريبيا لمختلف الأسلحة التي استعملت خلال عملية إنقاذ النظام في سوريا. غير ذلك يصعب تصورها وفق النظرة الروسية على أنها الفرص الواعدة للاستثمار.
تبدو فرص نجاح الحراك في سوريا ضئيلة قياسا بحجم التغيرات الميدانية والسياسية التي حدثت لصالح نظام الحكم خلال السنوات الماضية، ولكن حجم المعاناة الإنسانية وضخامة الكارثة الاقتصادية التي يتكبدها السوريون قد أفرزت مكونات حراك شعبي ربما يكون محدودا إلى حد الآن ولكنه يحمل نفس المطالب والشعارات التي رفعت في ثورة 2011، وحتى وإن كان من السابق للأوان الحكم على الحراك بالفشل في الامتداد إلى دمشق باعتبارها الرقم الأول في معادلة التغيير، إلا أن كسر حاجز الخوف والرعب كان النقطة الإيجابية التي سجلها حراك السوريين الجديد، وخطوة أولى في مسار طويل ومكلف لاقتلاع نظام جثم على صدور السوريين طويلا وساهم في تحويل سوريا إلى جمهورية كبتاغون.
فاضل المناصفة – كاتب فلسطيني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة