ليس مستبعدا أن يكون بوتين قد ورط نفسه في سياق استعراضات القوة السريعة في عملية البحث عمَّن ينفذ جرائم خياله بعيدا عن المؤسسة العسكرية الروسية التي يحرص على نظافتها.
بوتين والخدر الداخلي
ليست الدول الكبرى بمنجى من الغدر الداخلي. ذلك ما تقوله تجربة انشقاق رئيس مجوعة فاغنر على القيادة العسكرية الروسية. قال الرئيس فلاديمير بوتين “إنها طعن بالظهر”. يا للبلاغة الجاهزة المهترئة. كانت الولايات المتحدة قد سبقت روسيا في تجنيد المرتزقة لحسابها. حدث ذلك في العراق يوم أسندت القوات الأميركية العمليات القذرة إلى شركات من المرتزقة، في مقدمتها بلاك ووتر التي ارتكب أفرادها مجازر في حق المدنيين العراقيين وكانوا محميين بقانون يحول دون عقابهم. فاغنر الروسية لا تختلف في شيء عن بلاك ووتر الأميركية. ما لا تسمح به قواعد الانضباط العسكرية يقوم به المرتزقة.
نظرية لا يرى فيها الكبار ما يُعيب. ما من خلل أخلاقي إذا كان الضحايا لا يملكون صوتا. وليس من المتوقع أن يُسأل بوتين عن خرق قواعد الاشتباك مثلما لم يتعرض جورج بوش الابن للمساءلة عما فعله مرتزقته في العراق. يملك العراقيون زمنا فائضا في ظل هيمنة أحزاب تابعة للخارج لا ترى في هدر كرامتهم واللعب بمصائرهم ما يُقلق. لن يختلف الأمر مع أوكرانيا. بالرغم من أن الغرب كله معها وكانت المحكمة الجنائية قد أصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي. ولكن من يجرؤ على تنفيذ تلك المذكرة؟
ولكن الطعنة في الظهر لم تكن متوقعة. أيعقل ذلك وبوتين هو رجل مخابرات من الطراز الأول، وهل علينا أن نصدق أن زعيم المجموعة المتمردة سيوجه الأوامر لأتباعه بمحاربة الجيش الروسي؟ ليست الأمور بهذا اليسر. كان اللجوء إلى المرتزقة محاولة لتقليل خسائر الجيش الروسي وإن كان أولئك المرتزقة هم الآخرون روساً. نوع من الالتواء على الواقع واللعب على المسميات. مرتزق روسي ميت هو غير جندي روسي ميت. فالمرتزق لا يُحسب ضمن الخسائر. لعبة سمجة لا معنى لها وهي ذات أبعاد غير إنسانية.
بوتين أخطأ حين لوّث حربه بالمرتزقة الذين كان يأمل في التخلص منهم في وقت لم يكن على معرفة دقيقة به. ولكن ما لم يفكر فيه أن يأتي اليوم الذي ينقلب فيه أولئك المرتزقة عليه
بالنسبة إلى الشركات الأمنية التي استعانت بها القوات الأميركية في العراق من أجل تنفيذ العمليات القذرة لم يكن شرطا أن يكون أفرادها أميركيين. لذلك فإنهم حين يُقتلون لا أحد يسأل عنهم داخل الولايات المتحدة. بشر لا أهل لهم. مجرد مجموعات بشرية تبحث عن المال ولا تهمها القيم ولا الأبعاد الإنسانية. غير أنهم في الوقت نفسه ضحايا مناقصات للموت. قد لا يبقى الواحد منهم حيا لتستلم عائلته راتب الشهر الثالث. لن يختلف الأمر بالنسبة إلى مجموعة فاغنر سوى في كون أفراد تلك المجموعة من الروس. ولكنهم روس من نوع مختلف. لا أحد يسأل عنهم بعد أن وقّعوا على شروط تخليهم عن حقوقهم بموجب العقد الموقع مع الشركة.
وليس من السذاجة التساؤل عمّا تنطوي عليه استعانة دول كبرى بالمرتزقة في حروبها من انحطاط أخلاقي. لم تفعلها الدول الأوروبية في كل حروبها السابقة ولم تفعلها الدول الصغيرة باستثناء إيران يوم جندت مرتزقة عراقيين، البعض منهم كان أسيرا لديها في حرب الثماني سنوات ضد العراق. هناك شيء من العار لا يُنسى. فليس ضروريا أن تتخلل الحروب عمليات قذرة تفتح صفحة مجاورة للتاريخ الدامي تكون بمثابة جرح لا يمكن أن يلتئم. لقد سعت الولايات المتحدة عن طريق مرتزقتها إلى أن تمنع ظهور فيتنام ثانية في العراق. فعلت الأسوأ من أجل أن لا يُصاب جنودها بالجنون حين أوكلت لمرتزقتها مهمة ارتكاب الجرائم التي لا يمكن لأفراد القوات المسلحة أن يرتكبوها.
ليس مستبعدا أن يكون بوتين قد ورط نفسه في سياق استعراضات القوة السريعة في عملية البحث عمَّن ينفذ جرائم خياله بعيدا عن المؤسسة العسكرية الروسية التي يحرص على نظافتها. تلك حرب. ما من حرب عادلة. الحرب قذرة. أما خبرة بوتين وهو رجل مخابرات فإنها تقول إن أعداءه لا يتخلون عن فرصة لإلحاق الأذى به وبروسيا. وهو يعرف أن هناك حربا بالوكالة. ليست أوكرانيا هي التي تقف وحدها أمامه، بل الغرب كله وفي مقدمته الولايات المتحدة. ولكن اللجوء إلى المرتزقة لا يليق بدولة كبرى. ما فعلته الولايات المتحدة في العراق ليس درسا مبهجا.
أخطأ بوتين حين لوّث حربه بالمرتزقة الذين كان يأمل في التخلص منهم في وقت لم يكن على معرفة دقيقة به. ولكن ما لم يفكر فيه أن يأتي اليوم الذي ينقلب فيه أولئك المرتزقة عليه. أنا من جهتي لا أصدق ما حدث. فهل عليّ أن أصدق أن الرئيس الروسي صار عليه أن يصدق ما جرى؟
فاروق يوسف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة