مطلوب من النظام السوري الردّ على حسن النيّة العربيّة وإثبات أنّه قادر على ضبط مصانع المخدرات والأسلحة، من دون مثل هذه الخطوة لن يحصل تقدّم في العلاقة العربيّة – السوريّة.
المأساة السوريّة تكمن في أن النظام يعتبر أنّه انتصر
ما زال النظام في سوريا يعيش في عالم خاص به. يؤكّد ذلك أنّه بعد مرور ما يزيد على اثني عشر عاما على اندلاع الثورة الشعبيّة في كلّ أنحاء سوريا، لا يزال الوضع في هذا البلد يراوح مكانه. كلّ شيء يراوح مكانه على الرغم من كلّ التغييرات التي حصلت على الأرض. إنّها تغييرات يلخصها وقوع سوريا تحت خمسة احتلالات بدءا بالاحتلال الإسرائيلي القديم القائم منذ العام 1967 والاحتلال الإيراني والاحتلال الروسي والاحتلال التركي والاحتلال الأميركي. اللافت في الأمر أنّ الاحتلال الإيراني لم يبدأ مع اندلاع الثورة السوريّة، كان التمهيد له منذ سنوات طويلة، خصوصا في ضوء العلاقة بين دمشق وطهران وهي علاقة تعززت إلى حد كبير وفقدت عنصر التوازن بين الجانبين، بعدما خلف بشّار الأسد والده في مثل هذه الأيّام من العام 2000.
يراوح الوضع السوري مكانه لسبب في غاية البساطة. يتمثّل هذا السبب في عجز النظام عن الدخول في حل سياسي وإيمانه بأن في استطاعته الانتصار على الشعب السوري وإخضاعه نهائيا في ضوء عمله، بمشاركة إيران وميليشياتها، على تغيير التركيبة الديموغرافية للبلد. يظلّ أفضل تعبير عن هذا التغيير الذي “جعل المجتمع السوري أكثر تجانسا”، على حد تعبير بشّار الأسد، تهجير الملايين السوريين من سوريا، معظم هؤلاء إلى بلدان الجوار، وملايين في الداخل السوري. كلّ ما في الأمر أن هناك رفضا، يصرّ عليه النظام، لأي حل سياسي في سوريا يشمل عودة اللاجئين من لبنان، وغير لبنان. يفسّر هذا الرفض لعودة أي لاجئ إلى سوريا رغبة النظام في التخلّص من الأكثريّة السنّية في هذا البلد أو تقليص حجمها قدر المستطاع وبكلّ الوسائل المتاحة.
◙ لا تزال لدى النظام حساسيّة، ليس بعدها حساسية، حيال أي حل سياسي، لا لشيء سوى أن مثل هذا الحلّ يعني طرح تنفيذ القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن. هذا القرار يعني رحيل النظام
توجد أكثريّة عربيّة همّها الشعب السوري. تدرك هذه الأكثريّة مخاطر بقاء الوضع السوري على حاله، خصوصا في ظلّ وقوع النظام تحت الهيمنة الإيرانية وتحول سوريا إلى مصنع كبير للمخدرات وتهريبها إلى دول الخليج العربي وأوروبا، فضلا عن تهريب أسلحة إلى داخل الأردن نفسه وعبر أراضي المملكة الهاشميّة.
أبدت هذه الأكثريّة العربيّة كلّ حسن نيّة عندما وافقت على عودة النظام إلى شغل مقعد “الجمهورية العربيّة السورية” في جامعة الدول العربيّة. قدّم العرب عمليا كل ما يستطيعون تقديمه من أجل التخفيف من عذابات الشعب السوري. لكنّ الواضح بعد مرور أسابيع عدّة على الخطوة العربية التي توجت بحضور بشّار الأسد القمّة العربية الأخيرة التي انعقدت في جدّة، أن النظام يرفض، إلى إشعار آخر، القيام بأي خطوة في اتجاه وضع حدّ للحرب التي يشنّها على الشعب السوري. يعتبر النظام أنّ انتصاره في هذه الحرب مسألة حياة أو موت بالنسبة إليه. يؤكّد ذلك الشعار الذي رفعه منذ قامت الثورة وهو شعار “الأسد أو نحرق البلد”.
لا يزال النظام، على الرغم من مرور شهر على انعقاد القمّة العربيّة، يرفض التعاطي مع الواقع. لديه تفسيره الخاص لمعنى حضور الأسد الابن قمة جدّة. يقوم هذا التفسير على أنّ العرب رضخوا أخيرا لإرادة النظام في دمشق وكأنّهم لا يعرفون شيئا عن العلاقة العضوية بين النظام و”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. ليس سرّا أنّ النظام يراهن حاليا على أنّه سيكون جزءا من صفقة تُطبخ بين إيران وأميركا. يظنّ أنّه سيخرج بحصة تصبّ في مصلحته من هذه الصفقة التي ستعني، بين ما ستعنيه، حصول “الجمهوريّة الإسلاميّة” على مليارات من الدولارات من حسابات مجمّدة بموجب عقوبات أميركيّة.
يغيب عن النظام السوري أن العرب الواعين يعرفون أنّ كلّ خطوة عربيّة تجاه دمشق يجب أن تقابل، أو هكذا يفترض، بخطوة تقوم بها دمشق نفسها تثبت من خلالها أنّها جديرة بالعودة إلى جامعة الدول العربيّة. بكلام أوضح، يبدو مطلوبا من النظام السوري الردّ على حسن النيّة العربيّة عبر إثبات أنّه قادر على ضبط مصانع المخدرات ووقف تهريب “الكبتاغون” والأسلحة في مرحلة أولى. من دون مثل هذه الخطوة لن يحصل تقدّم في العلاقة العربيّة – السوريّة. سيتبيّن بكل بساطة أنّ عودة النظام إلى شغل المقعد السوري في جامعة الدول العربيّة لم تقدّم ولم تؤخر.
◙ الوضع السوري يراوح مكانه لسبب في غاية البساطة. يتمثّل هذا السبب في عجز النظام عن الدخول في حل سياسي وإيمانه بأن في استطاعته الانتصار على الشعب السوري وإخضاعه نهائيا في ضوء عمله
الأهم من ذلك كلّه، سيتبيّن أن النظام السوري ليس عاجزا عن فهم ما يدور في المنطقة والعالم فحسب، بل هو عاجز كذلك عن فهم أيّ موقف يصدر عن أوروبا أيضا. فقد أكد جوزيب بوريل الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي أخيرا “أن عودة العلاقات مع سوريا دون إحراز تقدم في العملية السياسية ليست خيارا مطروحا” أمام الاتحاد الأوروبي. وأضاف أنه على الرغم من ذلك، فإن الاتحاد سيواصل العمل عن كثب مع الشركاء العرب والدوليين لتحقيق الأهداف المشتركة، مشيرا إلى أن “الظروف لم تتهيأ بعد لإعادة العلاقات مع دمشق”.
إلى ذلك، أوضح المسؤول الأوروبي رفيع المستوى أن هذا موقف دول الاتحاد الأوروبي كلّها، مضيفا أنه بالنسبة إلى الدول الأعضاء، فإن شروط العلاقات مع سوريا باتت بعيدة المنال “وسنكون مستعدين للمساعدة في إعادة إعمار سوريا فقط عندما تجري عملية انتقال سياسي شاملة وذات صدقية”.
إنّها رسالة أوروبيّة واضحة كلّ الوضوح. فحوى الرسالة، التي هي رسالة أميركيّة أيضا، أنه لا إعادة إعمار لسوريا من دون قبول النظام الحل السياسي. ونظرا إلى أن النظام لا يستطيع ذلك، لا إعادة إعمار لسوريا في المدى المنظور. لا تزال لدى النظام حساسيّة، ليس بعدها حساسية، حيال أي حل سياسي، لا لشيء سوى أن مثل هذا الحلّ يعني طرح تنفيذ القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن. هذا القرار يعني رحيل النظام كونه يتحدّث عن “فترة انتقالية” ثم “انتخابات حرّة بإشراف الأمم المتحدة”. تكمن المأساة السوريّة في أن النظام يعتبر أنّه انتصر ولن يقبل الرحيل… قبل رحيل آخر سوري عن سوريا!
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة