زيارة مليتا ليست سوى امتداد لوثيقة مار مخايل ولانتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية وللفراغ الرئاسي الذي يعاني منه لبنان بسبب إصرار “حزب الله” على أن يكون مرشحه رئيسا للجمهورية.
زيارة مليتا تعكس حاضر المسيحيين في لبنان ومستقبلهم
يعطي ذهاب رجال دين مسيحيين إلى معلم مليتا في جنوب لبنان، وهو معلم أقامه “حزب الله” لتمجيد “تحرير” الشريط الحدودي الذي كانت تحتلّه إسرائيل، فكرة عن رؤية إيران لمستقبل لبنان. من مليتا، يمكن تصوّر الوضع المسيحي في بلد، اسمه لبنان، واقع تحت الاحتلال الإيراني.
في لبنان، كما يريده “حزب الله” والذي كشفته زيارة رجال الدين المسيحيين إلى مليتا، يعيش المسيحيون في حماية الحزب ورعايته. هذا هو التصوّر الإيراني للبنان. ينفّذ المسيحيون المطلوب منهم تنفيذه كمواطنين من الدرجة الثانية، تماما كما حال مسيحيي إيران والعراق وسوريا حيث لا حقوق تذكر لهم باستثناء تمتعهم بالحماية الأمنيّة… بالكاد.
لم يعد من وجود مسيحي يذكر في إيران. إذا استثنينا الأرمن الذين وجدت لهم وظيفة معيّنة في خدمة النظام، لا يمكن الحديث عن أيّ أقليّة ذات شأن في إيران، بما في ذلك عرب الأحواز.
◙ تصوّر مستقبل لبنان من خلال دور مسيحي وازن فيه لم يعد ممكنا، خصوصا في ظل حال الضياع والفراغ التي بات يعاني منها أهل السنة فيما يبحث الدروز عن حماية لوجودهم
ألغي الوجود المسيحي في العراق حيث وجود قديم للكنيسة. عبّرت عن هذا الوجود زيارة البابا فرنسيس الأخيرة إلى البلد قبل نحو عامين. كذلك الأمر في سوريا حيث يستعين النظام ببعض المسيحيين كواجهة له لا أكثر، بمن في ذلك البطريرك الأرثوذكسي (بطريرك أنطاكية وسائر المشرق) وبعض المطارنة. منذ أيّام حافظ الأسد، وظّف النظام المسيحيين في خدمة مشروعه القائم على تحالف الأقلّيات، من مسيحيين ودروز وإسماعيليين وشركس وتركمان، بقيادة الطائفة العلوية التي أحكمت سيطرتها على الجيش والأجهزة الأمنية والاقتصاد بمرافقه المختلفة. نجح النظام في ذلك، بشكل تدريجي، على مدى نحو ستين عاما. منذ 23 شباط – فبراير 1966، تحديدا، بعد الانقلاب الذي نفّذه الضباط البعثيون الثلاثة (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد) الذين صادَفَ أنّهم علويون!
تختزل خطابات المديح بـ”المقاومة”، الصادرة عن رجال دين مسيحيين لا يخجلون من التزلّف، مستقبل الأيّام التي يبدو لبنان مقبلا عليها. يبدو مقبلا على مثل هذه الأيام السود في حال بقيت موازين القوى الإقليميّة على حالها، وهي حال ليس ما يشير إلى أنّها ستتغيّر، خصوصا في ظلّ استمرار هجرة المسيحيين من لبنان وتدمير مؤسساته الواحدة تلو الأخرى. إنّها هجرة لعب، بلغة الأرقام، الرئيس السابق ميشال عون دورا أساسيا في الدفع في اتجاهها في المرّتين اللتين أقام فيهما في قصر بعبدا.
ليست زيارة معلم مليتا لرجال دين مسيحيين، في الذكرى الـ23 لانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، سوى امتداد للوثيقة التي وقعها ميشال عون مع الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله في 6 شباط – فبراير 2006 وهي الوثيقة الني أوصلت ميشال عون مع صهره جبران باسيل إلى قصر بعبدا في 31 تشرين الأوّل – أكتوبر 2016. خضع ميشال عون وجبران باسيل في مرحلة ما بعد توقيع وثيقة مار مخايل في 2006، وحتّى قبلها، لكلّ أنواع الاختبارات. نجحا في كلّ منها نجاحا منقطع النظير. كانا يستأهلان أن يكونا في عداد رجال الدين الذين ذهبوا إلى مليتا، فيما البطريركية المارونيّة تتفرّج على عملية تسخيف الوجود المسيحي في لبنان بدل اتخاذ موقف واضح من الزيارة التي ترمز إلى تملّق ليس بعده تملّق وإذلال ليس بعده إذلال… وذمّية ليس بعدها ذمّية.
أثبتت الزيارة إلى مليتا أن على كلّ مسيحي يريد العيش في المناطق التي تحت السيطرة المباشرة لـ”حزب الله” أن يكون ذمّيا. لا مجال أمامه، من أجل الحصول على الحماية والأمان، سوى أن يكون مجرّد بوق للحزب و”المقاومة” و”الممانعة”. كان طبيعيا أن يكون معظم رجال الدين الذين ذهبوا إلى مليتا من الجنوب والبقاع حيث تسهل توجيه تهمة العمالة لإسرائيل إلى أي مواطن يرفض الانصياع لمشيئة الحزب وتعليماته… والتصفيق لتدميره مؤسسات الدولة اللبنانية.
◙ خطابات المديح بـ”المقاومة” تختزل مستقبل الأيّام التي يبدو لبنان مقبلا عليها. يبدو مقبلا على مثل هذه الأيام السود في حال بقيت موازين القوى الإقليميّة على حالها
ليست زيارة مليتا سوى امتداد لوثيقة مار مخايل ولانتخاب ميشال عون رئيسا للجمهوريّة وللفراغ الرئاسي الذي يعاني منه لبنان منذ سبعة أشهر بسبب إصرار “حزب الله” على أن يكون مرشّحه رئيسا للجمهوريّة. شاءت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، مرّة أخرى، تأكيد أن الاتفاق الذي وقعته مع المملكة العربيّة السعوديّة برعاية الصين لا يشمل سوى العلاقات بين المملكة و”الجمهوريّة الإسلاميّة”. في المفهوم الإيراني، لا يشمل الاتفاق الذي وردت فيه عبارة “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى” سوى الطرفين الموقعين له.
بالنسبة إلى لبنان، بالذات، لا تتحكّم إيران بمفاصل السلطة في البلد ولا تكتفي، في تحدّ واضح للجيش، بتنفيذ مناورة عسكريّة في الجنوب اللبناني في منطقة تقع في قضاء جزين فحسب، بل إنّها ترسم أيضا مستقبل لبنان. لم يعد ممكنا تصوّر مستقبل لبنان من خلال دور مسيحي وازن فيه، خصوصا في ظلّ حال الضياع والفراغ والإحباط التي بات يعاني منها أهل السنّة، فيما يبحث الدروز عن حماية لوجودهم المهمّ في الجبل ومناطق أخرى.
كيف يقبل رجال دين مسيحيون القيام بما قاموا به في مليتا متجاهلين دور “حزب الله”، منذ تأسيسه في تدمير مؤسسات الدولة وطرد المسيحيين من بيروت الغربيّة على مراحل بغية الحلول مكانهم، أكان ذلك في المصيطبة والمزرعة وزقاق البلاط ورأس بيروت وأحياء أخرى، مثل القنطاري، كانت في الماضي القريب مناطق مختلطة؟
لا يمكن بطبيعة الحال حصر الموضوع بالمسيحيين، خصوصا في ضوء ما تعرّض له السنّة والدروز في مناطق معيّنة، في بيروت نفسها وفي الشويفات، على سبيل المثال وليس الحصر. لكنّ الواضح أنّ زيارة رجال دين مسيحيين إلى مليتا يعطي فكرة عن حال الترهّل والخنوع التي يعاني منها الوجود المسيحي في ظلّ إصرار لدى إيران على أن تكون الطرف الذي يحدّد من هو الماروني الذي سيكون في قصر بعبدا.
تعكس زيارة مليتا، إلى حدّ كبير، حاضر المسيحيين في لبنان ومستقبلهم. تعكس أيضا حال التخلي العربي والأوروبي والأميركي عن لبنان الذي يفقد يوميا المزيد من مقومات وجوده… ومن بينها الوجود المسيحي الوازن فيه.
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة