الديمقراطية بيئة لا يوجد فيها “حسين” و”عباس” كما لا يوجد فيها “سيد قطب” ولا “عثمان الأول” ولا “سليم الثاني” ولا “مراد الثالث” فهؤلاء شيء والديمقراطية شيء آخر تماما.
الطغاة يفوزون دائما
في العام 2019، فاز رجب طيب أردوغان بـ52 في المئة من أصوات الناخبين. مرت أربعة أعوام. انهارت العملة. وارتفع التضخم. وظل الإفلاس يطرق أبواب المصرف المركزي، وزاد المعتقلون آلافا إضافية، وتحولت الدولة، بكل ما فيها وبكل من فيها إلى “دولة أردوغان”، ثم حدث زلزال. فتأخرت “دولة أردوغان” عن أعمال الإنقاذ ثلاثة أيام قبل أن ترسل الرافعات أو جنودا ليساعدوا في رفع الأنقاض عن صدور الضحايا. فمات أكثر من 50 ألف إنسان وتشرد مئات الآلاف، وتعدت الخسائر 100 مليار دولار. وكانت شركات البناء التابعة لحزب أردوغان، في دولة أردوغان، هي أسُّ الفساد في أعمال البناء التي أعقبت زلزال العام 1999، فحققت أرباحا طائلة إنما من جثث الضحايا وعذابات الباقين على قيد الحياة. فلما جاءت انتخابات هذا العام، لم تتراجع نسبة التأييد لهذا الأردوغان إلا نحو 2 في المئة فقط.
هل تلاحظ العجب العجاب؟ إنه عجب أسطوري. مما لا يمكن لقيم الديمقراطية أو معاييرها أن تكون على صلة به، على الإطلاق.
وعندما تجرى انتخابات الإعادة، فإن أردوغان سوف يعود ليفوز بأربعة أعوام أخرى. ومن بعدها سوف يورث دولته لخليفة سوف يدعى أردوغان الثاني. فيليه أردوغان الثالث فالرابع فالخامس، حتى ولو أصاب البلاد عشرون زلزالا آخر، وحتى لو أفلس كل الناس، وليس المصرف المركزي وحده.
◙ الأتراك سوف يثبتون، مرة أخرى، بإعادة انتخاب أردوغان، أنهم أقل نضجا، وأقل وعيا، وأنهم يستحقون زعيما مثل أردوغان، يقودهم من زلزال طبيعي إلى زلزال اقتصادي، وهم قانعون
هذه ليست نظرة متشائمة. إنها نظرة الواقع لما يجري على أرض الواقع. فما لم ينتفض الأتراك من أقصى البلاد إلى أقصاها، فإن دولة أردوغان سوف تستمر وتبقى لألف عام. وهناك سبب لذلك. لا يراه “المحللون” ولا “الخبراء”، ومن الطبيعي ألا يراه رعاع الناس. وهو أن الديمقراطية “بيئة”، ما إن تغيب، حتى تسطو الأوهام على الحقائق. إنها ليست انتخابات، ولا ترشيحات، ولا منافسات، ولا برامج انتخابية ولا دعايات. إنها “بيئة”. وما إن تختفي، حتى لا يعود هناك معنى لكل هذا. سوف يصبح مسرحية تراجيدية – كوميدية على مسرح الغباء الوطني، والسخافة القومية، والهبل الشعبي.
شيء من هذا القبيل يحدث في كل مكان. انظر إلى العراق. سوف ترى الغباء الوطني يرقص على مسرح الميليشيات، فيفوز “الحسين” و”العباس” على كل حزب يقدم برنامجا للتنمية ومكافحة الفساد.
شعب، هو نفسه فاسد ويقنع بالانحطاط، هو الذي يبرر للطغيان أن يُصبح طغيانا. قيل لفرعون، ما الذي فرعنك، قال لم أجد أحدا يردني أو يقف في وجهي.
تفحص تاريخ الطغيان، وستعرف كيف. لو لم يمت على سريره بجلطة في الدماغ، هل كان جوزيف ستالين سوف يخسر أي انتخابات؟ هل كان هتلر سيكون بحاجة إلى أن ينظر باحترام إلى أي منافس له؟ ولو لم يعلقه الإيطاليون من قدميه، هل كان موسوليني سوف يقلق من إجراء أي انتخابات؟ واليوم هل تعتقد أن فلاديمير بوتين يمكن أن يعتبر الانتخابات تحديا حقيقيا؟ وهل تظن أن بشار الأسد سيرضى بأقل من أن يحكم “إلى الأبد” مع كل انتخابات؟
فقط انظر إلى التاريخ، وستعرف أن الطغاة يفوزون دائما، لأنهم يصنعون “بيئة مضادة”. فلماذا لا يفوز أردوغان؟
طاغية لم يزحزحه زلزال، هل تزحزحه انتخابات؟ كان ذلك الزلزال إشارة كونية للأتراك. فتجاهلوها. قالت لهم، إن ذلك هو الثمن الذي تدفعونه لدولة أردوغان، فأعادوا انتخاب دولة أردوغان، رغما عن ذلك الثمن، وقبولا بكل ما عرفوه من أثمان أخرى، وبكل ما قد يأتي من بعدها.
صنع أردوغان بيئة بديلة، خلطت الدين بالادعاء والغطرسة. وقف أمام طائرة مقاتلة حديثة قال إنها من صنع تركيا. لم يرها أحد تطير أو تقاتل. ولكن لا أحد يهتم، في هذه البيئة البديلة، بالبرهان. وكذلك فعل أردوغان عندما باع الغطرسة بحاملة طائرات مزعومة. وعندما مارس البلطجة في شرق المتوسط، وزرع عصابات ومرتزقة في ليبيا، ظنا منه أنه، بهذا السبيل، يستطيع أن يستعيد “أمجاد” الإمبراطورية العثمانية. تلك الإمبراطورية التي لم يسأل الغباء الوطني: هل كانت لها أمجاد؟ ولم تجرؤ السخافة القومية على أن تسأل: لماذا سقطت إذن؟
في غمرة الكابوس الذي يعم على النوم الوطني، لا أحد يخرج من دوامة المخادعات والأوهام. لا توجد حقائق يجري تفحصها، ولا مساءلات. والكل يغرق في الظلمات، فلا يعود هناك سبيل لقول، لا. تنعقد الألسنة. وكل لسان ينطق بغير ما تقوله الظلمات، يُقطع. ليعود اليقين لينتصر بأن الفشل قدر، والزلزال قدر، والفساد قدر، وإن دولة الاستبداد لا دخل لها بما يسوق الناس إلى مهاوي الشقاء. إنه قدر. وهناك تعويض له، هو أوهام الغطرسة. أوهام القوة والنفوذ العالمي والإقليمي الذي يجعل من البلاد مهيبة، ولو جاع الناس، ولها كلمة تعلو – بما تجرؤ عليه من الباطل – على كل قول آخر.
◙ انظر إلى العراق. سوف ترى الغباء الوطني يرقص على مسرح الميليشيات، فيفوز “الحسين” و”العباس” على كل حزب يقدم برنامجا للتنمية ومكافحة الفساد
فكيف لا يفوز أردوغان؟
هذا رهان، لا مغامرة فيه. يكفي الانتظار أسبوعين آخرين، ليرى الجميع النتائج.
الديمقراطية بيئة، لا يرتهن فيها الناخبون لعقيدة دينية أو أيديولوجية. يرتهنون لما يقع بين أيديهم من حقائق وأرقام. بيئة تواجه الوعود والمزاعم بالأسئلة وتدقيق الحساب. لا يوجد فيها “حسين” و”عباس”، كما لا يوجد فيها “سيد قطب” ولا “عثمان الأول”، ولا “سليم الثاني”، ولا “مراد الثالث”. هؤلاء شيء، والديمقراطية شيء آخر.
قال أردوغان إنه سيعيد بناء ما تهدم في الزلزال في غضون عام. لو قال مرشح، في بيئة ديمقراطية، كلاما من هذا النوع، لألقى عليه الناخبون مزيجا من البيض والطماطم. “الناخبون” الأتراك، لم يسألوه: مولانا، ومن أين ستأتي بالمال؟
الديمقراطية بيئة توازنات انتخابية، لا تشتغل فيها وكالة الأنباء بوقا للحاكم، ولا يشتغل الإعلام طبّالا له. ولا تتحرك الكاميرات لتصور خطواته أينما ذهب دون مراعاة لخطوات المنافسين. إنها بيئة لا تسمح بمرور دعاية همجية، من قبيل تلويث المنافسين بتهم الإرهاب، ولا ترهيب ناخبيهم. لا تسمح بمزاعم بطولات وإنجازات واختراقات من دون نقد وتدقيق. والناس فيها، ليسوا مطايا. يوجد بينهم مطايا، ولكن يوجد بينهم من يجرؤ على إثارة الأسئلة، دونما خشية من أن يُقطع لسانه، أو تُقطع أرزاقه. فيتعلم القطيع، شيئا فشيئا أنه أكثر من مجرد قطيع. وأنّ الحاكم، ليس خليفة يحكم باسم عقيدة ما، وإنما موظف مدني، مسؤول عما يفعل. ومسؤول إذا قال وفشل. ويتعين عليه أن يخاطبهم بالحقائق والأرقام، وليس بالمزاعم والأوهام. ولا بالعقيدة. لأن الناس لا تضع العقيدة على طاولة الطعام.
الأتراك سوف يثبتون، مرة أخرى، بإعادة انتخاب أردوغان، أنهم أقل نضجا، وأقل وعيا، وأنهم يستحقون زعيما مثل أردوغان، يقودهم من زلزال طبيعي إلى زلزال اقتصادي، وهم قانعون.
كل شيء آخر، وهم. تحتاج إلى ثورة، لكي تخرج من هذا الكابوس.
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة