ليس أسوأ من العودة المجانية للنظام السوري إلى الجامعة العربية إلا الاعتراض الأميركي عليها، فالولايات المتحدة هي أكثر من مهد لهذه النتيجة عبر أفعالها التي منعت سقوط النظام وعاقبت السوريين على ثورتهم.
للدول العربية أسبابها في التطبيع مع النظام السوري
أحد المتحذلقين من الإعلاميين العرب، يقول “إن سوريا لم تغادر العروبة لتعود إلى جامعتها”. وهذا يختصر نكبة السوريين بأشقائهم في جانبين كلاهما مر كما يقال، الأول هو أن تختصر سوريا بنظام بشار الأسد، والثاني هو أن تعليق عضوية دمشق في الجامعة كان أقصى إجراء عربي رسمي يتخذ لنصرة ثورتهم.
ما يزيد الألم في مثل هذه التصريحات هو تجاهل حقيقة أن نظام الأسد لم يخدم العروبة يوما كما خدم إيران. ولم يفوّت فرصة، منذ عهد الأب وحتى الآن، ليبعث الأزمات بين الأشقاء وداخل دولهم. في حين أنه حرص بإخلاص لخمسة عقود متواصلة، على سلامة إسرائيل وأمنها، وهي التي تحتل قطعة من أرض سوريا.
للدول العربية أسبابها في التطبيع مع النظام السوري، ليس بينها ما يصب في صالح الثورة طبعا. ولكن القرار ينطوي على اعتراف ضمني بأن الثورة قد ماتت من وجهة نظرهم، وأن الاستمرار في خديعة السوريين بالقول إن العالم سينصفهم يوما هو جريمة أكبر بكثير من التأييد الصوري والمزيف لثورتهم.
ليس أسوأ من العودة المجانية للنظام السوري إلى الجامعة العربية إلا الاعتراض الأميركي عليها. فالولايات المتحدة هي أكثر من مهّد لهذه النتيجة عبر أفعالها التي منعت سقوط النظام، وعاقبت السوريين على ثورتهم. وعندما تكشّف زيف ادعائها أصدرت عقوبات قيصر لتمنع العالم من تحريك ساكن في الأزمة.
◙ لا يمكن للولايات المتحدة أن تدعي رغبتها بإحلال الديمقراطية في المنطقة طالما أنها تغض الطرف عن بقاء الأسد في السلطة، ولم تعد تفعل شيئا للثورة السورية منذ سنوات طويلة
طوال أكثر من 12 عاما، لم ترحم أميركا السوريين ولم تسمح لهم بنيل رحمة غيرها. فرضت عليهم حالة معلقة من التغيير، وحشرتهم في أضغاث أحلام ونصف ثورة وبقايا وطن ورماد هوية. وكلما تذكر العالم أزمتهم، تخرج واشنطن لتندد بإجرام بشار الأسد، وتذكره بضرورة إجراء إصلاح سياسي يوما ما.
دعمت الولايات المتحدة تسليح فصائل المعارضة السورية ومنعتها من إسقاط النظام بالقوة. طالبت الأسد بالرحيل وغضت الطرف عن دعم الإيرانيين والروس له ضد شعبه. وحين ولد تنظيم داعش قررت أميركا جعل محاربة التنظيم أولوية، وصرف النظر عن “الرئيس” الذي كان أبرز أسباب الإرهاب في المنطقة.
لم ينته الدور التخريبي لواشنطن في الثورة السورية هنا. فقد ميزت الكرد عن بقية معارضي الأسد، ودعمتهم ليصنعوا شرق نهر الفرات دولة يرفرف فوقها العلم الأميركي، وتنتشر فيها صور عبدالله أوجلان. وكما رسمت أميركا مناطق نفوذها في سوريا، فعلت تركيا وإيران وروسيا، فتقسمت البلد إلى دويلات.
الولايات المتحدة لم تخطط يوما لإزاحة الأسد عن السلطة. ولهذا لم تكترث لمن كان يمثل المعارضة السورية في المحافل الدولية. فابتليت الثورة بكوكبة من الانتهازيين والمتطرفين وأصحاب العاهات السياسية. وكان كلما استدعيت المقارنة بين بقاء النظام أو زواله، غلبت كفة “الدولة” على “المتشرذمين”.
حتى الأمس القريب، كانت الولايات المتحدة تقول إنها فعلت كل ما في وسعها ضد الأسد، ولكن المعادلات الدولية سارت لصالحه. ولكن ما رآه العالم من دعم غربي للأوكرانيين ضد روسيا، فضح الأكاذيب الأميركية، وفند ادعاءات واشنطن بأنه أسقط في يدها، ولم تعد تملك إلا العقوبات لتحارب النظام.
واشنطن أيضا ضللت الدول العربية والغربية في نصرة الثورة السورية. شجعتها على تسليح المعارضين للأسد، وشكلت معها غرف عمليات ضده. وعندما تيقنت أن سوريا تحولت إلى شبح دولة، تخلت عن “أصدقاء الثورة”، وهللت للتفاهمات التركية والروسية والإيرانية على أنقاض المدن، وباصات النازحين.
حتى المطالبة اللفظية للأسد بالرحيل تخلت عنها أميركا. أصبحت بياناتها تحثه على إجراء إصلاحات سياسية والتكرم على معارضيه بتعديل في الدستور، أو شغل مناصب في الحكومة، أو السماح للاجئين والنازحين بالعودة الآمنة إلى بيوتهم ومناطقهم. أما أكبر المطالب فهو إطلاق سراح المعتقلين في سجونه.
◙ طوال أكثر من 12 عاما، لم ترحم أميركا السوريين ولم تسمح لهم بنيل رحمة غيرها. فرضت عليهم حالة معلقة من التغيير، وحشرتهم في أضغاث أحلام ونصف ثورة وبقايا وطن ورماد هوية
الغضب الأميركي على الأسد توّج بعقوبات قيصر التي فرحت بها المعارضة شماتة بالمؤيدين للنظام، وليس قناعة بجدواها. فما رفض النظام تقديمه تحت ضغط القوة العسكرية، لن يتنازل عنه خشية من تجويع ما تبقى من شعبه. ناهيك عن أنه محاط بخبرات إيرانية وروسية للتحايل على هذه العقوبات والالتفاف عليها.
تعرف أميركا أن الأسد يمكنه تجاوز العقوبات بطرق عدة. وتدرك أيضا أن الدول العربية متباينة في خصومتها مع النظام. كما أن البلاد المجاورة لسوريا تئن تحت ضغط النازحين واللاجئين منها. هذا بالإضافة إلى انعكاسات التغيير الذي طال المنطقة بأسرها، بعد التطبيع الذي وقع بين تركيا ودول عربية عدة.
ثمة أمر آخر سرّع من التطبيع العربي مع نظام الأسد، يتمثل برغبة السعودية في التواصل مع إيران. وهذا يعني بشكل أو بآخر، اتفاقا واضحا في المنطقة على تغيير التحالفات لصالح إحلال “السلام”، حتى ولو على حساب الثورة السورية وغيرها من مشاريع الديمقراطية غير المكتملة حتى الآن في الشرق الأوسط.
لا يمكن للولايات المتحدة أن تدعي رغبتها بإحلال الديمقراطية في المنطقة طالما أنها تغض الطرف عن بقاء الأسد في السلطة، ولم تعد تفعل شيئا للثورة السورية منذ سنوات طويلة. أما الجلوس بانتظار معجزة ما تغيّر السلطة في دمشق، أو تدفعها إلى المصالحة مع المعارضة عن طيب خاطر، فهذا هو العبث بذاته.
ولأن الجميع يعرف ذلك، لم يعد هناك ما يمنع من التفكير بطرق أخرى للتعامل مع المشكلات التي تسبب ويتسبب بها نظام الأسد. لا يمكن الرهان على جدوى الحسابات العربية الجديدة، ولن يفيد انتقاد خيانتها للثورة السورية. التطبيع مع الأسد يهدف إلى جعل السوريين عبرة لكل راغب في التغيير بالمنطقة، ولكن من دق المسمار الأول في نعش أحلامهم الديمقراطية هو الولايات المتحدة وليس الجامعة العربية.
بهاء العوام – صحفي سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة