الرئيس التركي لم يُجر تعديلات جذرية على الدستور وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي مطلق لكي يتنحى بسهولة فيما بعد إذا خانته صناديق الاقتراع.
هزيمة أردوغان لا تضمن رحيله
الكثير من المتفائلين بخسارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الانتخابات الرئاسية التركية المقررة في الرابع عشر من الشهر الجاري، يبررون تفاؤلهم بأن نتائج أغلبية استطلاعات الرأي التي مازالت تجري تباعا، تشير في معظمها إلى خسارة أردوغان، وكأن الأخير ديمقراطي ومنفتح ولديه روح رياضية وسيرضخ بسهولة لنتائج التصويت ويتنحى جانبا إذا أفضت إلى ذلك. وينسى أو يتناسى هؤلاء المتلهفون لزوال حقبة أردوغان القاتمة، التي اكتوت بخبلها ومغامراتها تركيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحتى أوروبا، أن طبيعة الرئيس التركي التوتاليتارية وفكره الشمولي الكُلياني وولعه وغرامه وهوسه اللامحدود بالسلطة، التي حولها إلى سطوة وملكية مطلقة، لا تسمح له بالتخلي عن السلطة حتى وإن جرى ذلك عن طريق الانتخابات وصناديق الاقتراع.
ومنذ أن بزغ نجم أردوغان السياسي عندما كان منتميا إلى حزب الخلاص بقيادة نجم الدين أربكان في نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، كان سلوكه، وبحسب الكثير من المختصين بالشأن التركي، يوحي بميوله التسلطية التقليدية، على الرغم من أنه في أعقاب الانقلاب العسكري سنة 1980 بقيادة كنعان إيفرين تم حظر جميع الأحزاب السياسية.
أردوغان لن يعترف بالخسارة حتى وإن حصلت. وفي حال حصولها سيتهم القائمين على الانتخابات وفرز الأصوات بالتزوير، وستؤول التطورات إلى جولة ثانية قريبة أو بعيدة
وبحلول سنة 1983 تم السماح مرة ثانية للأحزاب بمزاولة العمل السياسي وعاود أردوغان نشاطه مع حزب الرفاه الإسلامي وخاصة في إسطنبول. وفي عام 1994 نجح أردوغان في اعتلاء منصب عمدة إسطنبول الذي بقي فيه إلى غاية 1998 كمرشح من قبل حزب الرفاه. وهنا سنحت لأردوغان الفرصة الحقيقية لإبراز ميوله التسلطية، حيث أنه كان يحكم وفق عقلية المسؤول المستبد والدائم، وليس وفق عقلية الحاكم المنتخب والمؤقت. وقام ضمن صلاحياته بإبعاد وتهميش المعارضين له وتعيين المقربين والمحسوبين عليه الذين أصبحوا عيونا وآذانا له في أروقة ودهاليز بلدية إسطنبول التي تعد رئاستها توطئة لرئاسة تركيا كما حصل مع السلطان أردوغان.
وسرعان ما تجذرت نزعة أردوغان التحكمية المطلقة وقويت شوكتها عندما فاز حزب العدالة والتنمية سنة 2002، الحزب الذي أسسه أردوغان مع عبدالله غول سنة 2001، في الانتخابات البرلمانية. وشغل أردوغان منصب رئاسة الوزراء ابتداء من 2003 إلى غاية 2014. ومنذ 2014 إلى اليوم بات الرئيس المطلق لتركيا وخاصة بعد أن أدخل تعديلات جذرية على الدستور التركي عقب استفتاء شعبي سنة 2017، تلك التعديلات التي سمحت له بأن يصبح الرئيس، لا بل السلطان -وهي الكلمة الأقرب إلى قلبه وعقله- الأوحد لتركيا وحامي الإسلام والمسلمين في العالم أجمع كما يطيب لأنصاره ومريديه والمخدوعين به ترديد ذلك.
ولم يعمد أردوغان إلى إجراء تعديلات جذرية على الدستور وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي مطلق لكي يتنحى بسهولة فيما بعد إذا خانته صناديق الاقتراع التي لولا الخجل ولو امتلك القوة والصلاحيات الكافية لقام بإلغائها منذ فترة ونصب نفسه سلطانا جديدا في ظل ما بات يسمى بالعثمانية الجديدة. بتعبير آخر، هو لم يقم بإجراء ذلك التغيير الهائل إلا لكي يبقى في السلطة إلى أن يأخذ الله أمانته كما حصل مع مصطفى كمال أتاتورك، خاصة بعد أن قام بتطهير الجيش والأجهزة الأمنية حيث أزاح مكمن كل خطر قد يحدق به.
ومنذ محاولة الانقلاب الغامضة وربما المفبركة في 2016 عمد أردوغان إلى غربلة أجهزة الدولة ومؤسساتها، حيث تم إقصاء المناوئين وملؤها بالأتباع والأنصار، في إشارة إلى أنه كان يُحضّر عمليا لما يمكن تسميته بتركيا الأردوغانية على غرار تركيا الكمالية نسبة إلى مصطفى كمال مؤسس تركيا الحديثة التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية وعلى أنقاض الإمبراطورية العثمانية.
عهد أردوغان
ولن يخسر أردوغان الانتخابات لكي يتنحى، بمعنى أنه لن يعترف بالخسارة حتى وإن حصلت. وفي حال حصولها سيتهم القائمين على الانتخابات وفرز الأصوات بالتزوير، وستؤول التطورات إلى جولة ثانية قريبة أو بعيدة. وكل ذلك ضمن السيناريوهات البديلة أو الخطط باء وجيم وسين التي أعدها الرئيس التركي سلفا وبإحكام وإتقان فريدين. أردوغان له سوابق في هذا المجال ولديه خبرة طويلة في تأليف وإخراج العروض والمسرحيات المثيرة والشيقة كما حصل في أعقاب الجولة الأولى من الانتخابات العامة في 2015 والانقلاب الغامض في 2016، وكما حصل أيضا مع أكرم إمام أوغلو عندما فاز للمرة الأولى برئاسة بلدية إسطنبول سنة 2019.
ولم يُدخل أردوغان التعديلات الجذرية على الدستور التركي وعبر مراحل وبشق الأنفس ولم يغير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي مطلق لكي يتنحى بهذه السهولة ولمجرد أنه سيخسر الانتخابات التي إن فاز فيها فستكون نزيهة وإن خسر فستكون حتما مزورة وغير نزيهة حسب عقلية أردوغان وأتباعه. وسلوكه وردة فعله لن يكونا غريبين عما يسميه البعض خطأً بـ”الديمقراطية التركية” وعن التاريخ السياسي التركي المضطرب والمليء بالانقلابات العسكرية وخرق الدستور من قبل مشرعيه وحُماته المفترضين.
أيها المتفائلون بأفول عهد أردوغان المأساوي وانقشاع غيومه وسحبه الداكنة التي كدّسها على مر أكثر من عشرين سنة فوق سماوات المنطقة عموما والتي لم تدر سوى الشؤم والخراب على بلده والجوار وما بعد الجوار، أنعيكم بأن السلطان أردوغان باق وغير راحل. كيف يرحل السلطان وقد قال مرارا وتكرارا إنه في مهمة مقدسة موكلة من الله وخادم الشريعة وحامي الإسلام والمسلمين في العالم أجمع، ولا يجوز للناخبين حتى وإن كانوا يشكلون الأغلبية أن يعكروا صفو مهمة السلطان أو ألا يصوتوا لصالحه، فهم بذلك يرتكبون المعاصي والمحرمات. السلطان جاء بقرار شعبي ولن يذهب إلا بقرار إلهي. أردوغان أو نحرق البلدان.
جوان ديبو – كاتب سوري كردي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة