مجرد تواطؤ سلطة العشيرة لتدمير الأخرى مع أطراف خارجية إلى درجة تصل إلى شن حملة اغتيالات لمناضلين أكراد أتراك أو إيرانيين أو سوريين يعني أنه لا وجود لشيء اسمه قضية قومية.
لا وجود حقيقيا لشيء اسمه قضية كردية
كردستان العراق يفقد استقلاله الاقتصادي. فقد من قبل ذلك استقلاله السياسي والأمني. والطموح من أجل أن يتحول الإقليم إلى أيقونة تقدم وازدهار يتبدد الآن ليحل محله الفساد وانعدام الاستقرار والتنافس الذي يقف على حافة الانفجار.
هذه أوضاع تتطلب نقدا. إلا أنها نادرا ما تجد أقلاما كردية تجرؤ على أن تخرج من قوالب الولاء المألوف. وهو ولاء مأجور بطبيعة الحال، إلا أنه إذ ينعم بالعمى عن رؤية الفشل ويعجز عن تصويب المسارات السياسية الكردية، فإنه لا يعد حقوق وحريات الشعب الكردي في العراق إلا بالمزيد من التردي.
الكثير من الكتاب والصحافيين الأكراد يتصرفون بدوافع قبلية. ينسون أن الشعب الكردي أكبر من الأسرتين اللتين تحكمانه في السليمانية وأربيل. ينسون أيضا أن القضية الكردية لا يمكنها أن تنتصر، كقضية حقوق قومية، إذا انحدرت لتكون قضية تتصل بمصالح إحدى هذين الأسرتين أو كلتيهما معا.
لقد رأى الجميع كيف قاد نظام المحاصصة الطائفية في بغداد العراق إلى أن يصبح دولة فاشلة، يغلب عليها الفساد، وتنهش الميليشيات الموالية لإيران من لحمها أكثر بكثير مما تفعل الوحوش الكواسر. المنطق، بالنسبة إلى أصحاب قضية قومية، كان يتطلب ليس البقاء على مسافة من هذا الواقع، وإنما إدانته والامتناع عن التواطؤ معه.
◙ عندما يختلف اللصوص في ما بينهم على تقاسم المغانم فإن ذلك لا يبرر تبرئة أي منهم، العلة في المغانم نفسها.. العلة هي أن سلطة العشيرتين لا تصون حقوق أحد حتى ولو بقيت تزعم ذلك
ما حصل هو العكس تماما. لقد انخرط الحزبان الكرديان الكبيران في هذا النظام باعتباره امتدادا لهما وتتمة لطبائعهما الميليشياوية الخاصة. أما العاقبة فقد صارت وخيمة مرتين. الأولى، عندما تحول العراق كله إلى مستنقع، وكان من الطبيعي أن يلقي بظله الثقيل على كردستان. والثانية، عندما تحولت السلطات الكردية إلى سلطات فساد، ما أدى إلى تحول مؤسسات “الدولة” شبه المستقلة إلى صورة طبق الأصل للدولة المنهارة في بغداد. وذلك ليس لأنها أصبحت مؤسسات محاصصة عشائرية فحسب، بل لأنها انفصلت كليا عن واقع أن الشعب الكردي أكبر من تلكما العشيرتين المتنافستين على المغانم: بارزاني وطالباني.
لم تظهر أحزاب كردية معارضة، إلا لهذا السبب. ولئن توفرت أسباب أخرى، فالحقيقة هي أنه لم يعد بوسع هذين العشيرتين أن تمثلا الشعب الكردي. كما أنهما باتتا أعجز من أن تمثلا تطلعاته القومية. ومع توالي الأزمات الاقتصادية بوصفها انعكاسا لسوء التقدير السياسي، وسوء الخيارات والتحالفات مع الميليشيات التي هيمنت على حكومة بغداد، فقد فشلت السلطات الكردية في أن توفر الموارد الأساسية لاستدامة الاستقرار.
مالت هذه السلطات إلى بناء إدارات ليس لكي تقوم بعمل ذي نفع ملموس، وإنما لكي تشتري الولاء. وإذ أصبح الكتاب والصحافيون جزءا من الديكور السياسي لإحدى العشيرتين، فمن أين كان يمكن للنقد أن يأتي؟
ولئن أصبح الإقليم غارقا في أزمة تكاد تعصف بكل شيء، إذا ما تحولت المنافسة إلى انقسام، والانقسام إلى حرب أهلية، فمن الواضح أن المعلقين السياسيين الأكراد يغيبون عن الأزمة. والكثير منهم يتهربون حتى من مجرد ذكرها باستدرار أحداث تقلبت عليها السنوات وأحالتها إلى التقاعد مقارنة بواقع ساخن يكوي بمخاطره الجميع.
صحف القبيلة لا بد في النهاية أن تدافع عنها. هذا سلوك غريزي. ولكن ما بال المخضرمين من الكتاب والصحافيين الذين اكتووا بنيران شتى؟ ما بالهم يهربون من الإفصاح عن أزمة المحاصصة بين قبيلة طالباني وقبيلة بارزاني ومن المخاطر الجسيمة الناجمة عن التوزيع العائلي للمناصب والجاه والثروة بين أفراد العائلتين المؤثرتين؟ كيف أن الكتاب الذين، في مواجهة الأنظمة الدكتاتورية السابقة، كانوا يلهجون باسم حقوق الشعب الكردي وقضيته القومية، نسوا هذا الشعب وحقوقه وقضيته، بعد زوال الدكتاتورية؟ بل كيف صاروا أصواتا لديمقراطية العشيرة؟ أفهل أرادوا إثبات أنهم أصبحوا كائنات أليفة لخياراتها الفاسدة ورهاناتها غير المدروسة؟
وحتى عندما انقلبت تلك الخيارات والرهانات وبالا على الحد الأدنى من تطلعات الاستقلال، فإنها لم تجد مَنْ يلقي بنظرة نقدية تجرؤ على أن تقول لحزب العشيرة، إنه لا يسلك الطريق الصواب.
الخلافات الراهنة بين العشيرتين، توفر مناسبة لمَنْ تكسرت أقلامهم لتأكيد الولاء. ما يشكل نوعا من “مأجورية” لا تخدم أيا منهما في جميع الأحوال. ولكن ما يتم تجاهله، عمدا وجهلا في آن، هو أن تجربة الحكم الذاتي الموسع، في الإطار “الفيدرالي” للعراق، هي نفسها التي تنهار.
لكي تتحدث عن أسباب الانهيار، تحتاج أقلاما حرة على الأقل. ولكن لكي تتحدث عن سوء الخيارات والرهانات وتبحث عن بدائل لها، فإنك تحتاج إلى مثقفين.
◙ لقد انخرط الحزبان الكرديان الكبيران في هذا النظام باعتباره امتدادا لهما وتتمة لطبائعهما الميليشياوية الخاصة. أما العاقبة فقد صارت وخيمة مرتين
مجرد وجود نظام فاسد في أربيل، وصورة فاسدة له في السليمانية، يعني بحد ذاته أنه لا وجود حقيقيا لشيء اسمه قضية كردية.
ومجرد تواطؤ سلطة العشيرة لتدمير الأخرى مع أطراف خارجية، إلى درجة تصل (كما يعرف الجميع) إلى شن حملة اغتيالات لمناضلين أكراد أتراك أو إيرانيين أو سوريين، يعني أنه لا وجود لشيء اسمه قضية قومية.
لا يجب التغافل عن حقيقة أن تسوية الخلافات بين العشيرتين هي نفسها جزء من المشكلة. إن لم تكن هي نفسها المشكلة الأكبر. من ناحية، لأن شقاقهما الحالي هو وريث تحالف دام لعدة سنوات. وهو تحالف، أورث كردستان ما أورث من نسخ الطبيعة الميليشياوية لنظام المحاصصة في بغداد. ومن ناحية أخرى، لأن إدارتهما للسلطة كانت إدارة فساد وأطماع.
عندما يختلف اللصوص في ما بينهم على تقاسم المغانم، فإن ذلك لا يبرر تبرئة أي منهم. العلة في المغانم نفسها. العلة هي أن سلطة العشيرتين لا تصون حقوق أحد، حتى ولو بقيت تزعم ذلك. والعلة هي أنها تتنافس لكي تكسب لنفسها امتيازات لا تستحقها من الأساس.
لم تنجح العشيرتان في إقامة مؤسسة “وطنية” كردية في العراق. أولا، لأنهما تحالفتا مع عصابات في بغداد، قبل أن تتشبها بها. وثانيا، لأن المغانم دفعتهما إلى أنهما لم تُبقيا للقضية القومية الكردية حيزا يستحق مكانتها التاريخية. وعندما حل محلها التواطؤ مع المخابرات التركية لملاحقة وقتل مناضلين أكراد، ثم بلغت الوقاحة حد الامتناع عن إدانة محاولة اغتيال مظلوم عبدي قائد قوات “قسد”، بل وربما الشراكة في تدبير المحاولة، فقد فاض الكيل. كما فاضت الجريمة، حتى بلغت مستوى من التخريب لم يعد يكفيه مجرد النقد.
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة