هناك فرصة متاحة اليوم لعودة الشرعية تتطلب من دمشق الشروع في مفاوضات جدية لحل النقاط الخلافية المتعلقة بعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم وضمان سلامتهم والأهم الدعوة إلى حوار لا محرمات فيه.
سوريا تراهن على نضج الظروف لتعود إلى مكانها الطبيعي
الاجتماع التشاوري لدول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق الذي عقد في مدينة جدة بالسعودية يوم السبت الماضي لمناقشة الأزمة السورية لم يفض إلى اتفاق يحسم عود دمشق إلى جامعة الدول العربية.
رغم ذلك لم تبد الدبلوماسية السورية أي استياء. على العكس بدا اهتمامها منصبا على إصلاح العلاقات الثنائية مع الدول العربية. وهو ما يمكن ملاحظته بتتبع الزيارات المكوكية لوزير الخارجية السوري فيصل المقداد، وزيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى دمشق الثلاثاء.
دمشق ترى أن الأولوية الآن لإصلاح العلاقات. العودة إلى الجامعة يمكن أن تؤجل. ولا مانع لديها كما جاء على لسان وزير خارجيتها من التضحية وبقاء سوريا لوقت قصير خارج الجامعة العربية.
واضح أن دمشق لا تريد إحراج الدول العربية، ولا تريد أن يكون ملف عودتها إلى الجامعة سببا لأي خلافات قد تنشأ بين هذه الدول، وتعرقل بالتالي فرص المصالحة. فاختارت العمل بسياسة إن أردت أن تطاع اطلب المستطاع.
◙ لا يمكن تبرير خطوات التقارب مع سوريا بدوافع إنسانية بحتة، السوريون عانوا ما فيه الكفاية ولم تصل أصواتهم إلى العالم، ما تغير ليس في الداخل السوري بل حدث التغير على المستوى الدولي
وإن كانت السياسة تقتضي العمل بمبدأ خذ وطالب، فإن دمشق اختارت أن لا تطالب، ستكتفي بما يقدم لها من عروض مبقية الرهان على نضج الظروف لتعود إلى مكانها الطبيعي في جامعة الدول العربية.
أكثر من هذا، دمشق تعلم أن الجامعة العربية بوضعها الذي آلت إليه، هي اليوم في حالة بيات لا شيء يرتجى منها. فما الداعي إلى العجلة إذا؟
الدول التي اتخذت قرارا بإعادة علاقاتها مع سوريا تعلم، كما تعلم دمشق نفسها، أن لا شيء تغير في سوريا خلال السنوات العشر الماضية.. لماذا جاء هذا القرار إذا؟
لا يمكن تبرير خطوات التقارب بدوافع إنسانية بحتة، السوريون عانوا بما فيه الكفاية ولم تصل أصواتهم إلى العالم، خاصة الدول القريبة منهم. والزلزال الذي ضرب شمال غرب سوريا وتركيا لا يفسر وحده التقارب الحاصل. السوريون عانوا من زلزال داخلي استمر أكثر من عشر سنوات بينما العالم يصيخ آذانا صخرية لهم.
ما تغير ليس في الداخل السوري. بل التغير حدث على مستوى العالم، ومعه حدثت عودة في الوعي.
إن أردنا معرفة ما حدث علينا أن نفتش عن الاقتصاد.
بينما تواجه دول المنطقة كارثة اقتصادية تهدد أمنها وبقاءها، كانت تلك الدول غارقة في نزاعات أيديولوجية وطائفية وعرقية، لا أثر ولا رائحة للاقتصاد فيها. لم يكن لدى الحكومات ولا المعارضة بمختلف أنواعها مشروع اقتصادي بديل. كان هناك فقر جيّر لخدمة الأيديولوجيا.
عودة الوعي والعمل على تصفير المشاكل في المنطقة سببه عوامل أربعة ذات بعد اقتصادي حدثت على مستوى العالم:
العامل الأول، وباء كورونا والحجر الذي رافقه، وكانت عواقبه وخيمة على اقتصاديات دول العالم التي لم تتمكن حتى اليوم من التغلب على آثارها السلبية.
أما العامل الثاني فهو مرتبط بالثورة التكنولوجية التي جاء بها الذكاء الاصطناعي، التي سيكون نتاج التخلف عن اللحاق بها فجوة اقتصادية يصعب على الدول، إن لم يستحل، تجاوزها مستقبلا.
ثالث هذه العوامل، الحرب الروسية في أوكرانيا التي نبهت العالم لمدى هشاشته، خاصة عندما يتعلق الأمر بالطاقة والغذاء.
◙ على صناع القرار في دمشق أن يدركوا أن عودة العلاقات الثنائية مع دول المنطقة لن تمنحهم الشرعية. الشرعية تكتسب ولا تعطى
آخر العوامل ورابعها، التغيرات البيئية وما رافقها من جفاف وشح بالمياه ينذر بحروب أهلية.
لا وجود لأي عامل سياسي بين هذه العوامل الأربعة. السياسة مجرد غلاف خارجي وقشرة بان زيفها، وسلعة لا يمكن بعد اليوم تسويقها باستخدام الأيديولوجيا، دينية كانت أو علمانية مدنية.
القوميون حاولوا تسويق الأيديولوجيا وفشلوا، الإخوان حاولوا أيضا وفشلوا. الصين الشيوعية الماوية حاولت وفشلت، فاختارت نظاما هجينا لا هو شيوعي ولا هو رأسمالي. تركيا دخلت بيت الطاعة، ورئيسها رجب طيب أردوغان الذي حاول تسويق الإسلام السياسي طويلا، يعيد تشكيل علاقاته مع دول الجوار بما يخدم اقتصاد البلاد ويحول دون كارثة. الأتراك يريدون منه حلولا اقتصادية وليس أوهاما أيديولوجية يسوقها لهم.
عاجلا أو آجلا ستضطر إيران مكرهة للتخلي عن طموحاتها في المنطقة، وهي طموحات إن بدت حتى هذه اللحظة أيديولوجية دينية، إلا أنها تكشف يوميا عن حسابات مصالح قد تنتهي بها إلى التخلي عن سياسة قتل الناطور وتبني سياسة صفر مشاكل مع جيرانها.
أي طريق ستختاره دمشق إذا اختارت طهران السير في هذا الاتجاه؟ وماذا سيبقى لديها لتراهن عليه في حال سقط آخر أباطرة الوهم ومسوقيه الإمبراطور الروسي المزيف فلاديمير بوتين؟
هل تستحق ورقة بوتين الرهان، وهي ورقة آيلة للسقوط؟ وهل من مصلحة دمشق انتظار أن تكره الأزمات الاقتصادية حكومة طهران على دخول بيت الطاعة حتى تتحرك؟
أم الأفضل لدمشق أن تراهن على الفرصة الممنوحة لها من قبل دول المنطقة وعلى رأسها السعودية، الآن؟
موقف الدول العربية التي اختارت المصالحة مع دمشق لا علاقة له بتصويب أخطاء سياسية ارتكبت، لا أحد يريد أن يجادل من كان على صواب ومن كان على خطأ، بل الأمر يتعلق بحسابات إستراتيجية دولية تتجه لتبني سياسة صفر مشاكل، الهدف من ورائها الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم.
الانفتاح العربي على دمشق، وخاصة من قبل السعودية التي ستحتضن في مايو المقبل القمة العربية، منح السوريين فرصة لاستثمار دور عربي قادر على التأثير لفتح قنوات الحوار بين مختلف الأطراف المتنازعة في سوريا، وتهيئة الظروف المناسبة لاتخاذ خطوات من شأنها المساهمة في استقرار الأوضاع في كامل الأراضي السورية.
◙ واضح أن دمشق لا تريد إحراج الدول العربية، ولا تريد أن يكون ملف عودتها إلى الجامعة سببا لأي خلافات قد تنشأ بين هذه الدول، وتعرقل بالتالي فرص المصالحة
إن كان هناك في دمشق أو خارجها من ينتظر أن يعيد الصراع التجاري القائم بين الصين والولايات المتحدة ثنائي القطب إلى العالم، لهؤلاء نقول إن انتظاركم سيطول.. فلا الصين ترغب بالمواجهة بعد أن قطفت ثمار الانفتاح والعولمة، ولا الولايات المتحدة راغبة هي الأخرى بتصعيد التوتر.
الصين التي تصالحت مؤخرا مع كورونا لإنقاذ اقتصادها، تبحث عن شركاء اقتصاديين وأسواق لمنتجاتها، لا يهمها لون وديانة وعقيدة هؤلاء الشركاء.
لا تنتظروا الإنقاذ يأتيكم من الشرق الأقصى، لأنه لن يأتي أبدا.
أردوغان الحالم بإمبراطورية تعيد المجد العثماني أدرك ذلك، وحكام طهران الحالمون بأمجاد الإمبراطورية الفارسية أدركوا ذلك. وبوتين الغارق بالمستنقع الأوكراني يدرك ذلك، ويبحث عن مخرج يحفظ له ماء وجهه.
لم يعد سرا أن الغرب لن يشن حروبا تقليدية ضد الدول التي ستفشل في اللحاق طوعا بالتغيرات الحاصلة على المستوى الدولي، ليغيرها. الحرب خيار عفا عليه الزمن.. بدائله متوفرة وسهلة ورخيصة؛ الحصار الاقتصادي والإهمال.. نترككم تذبلون وتجفّون لتسقطوا من تلقاء أنفسكم.
على صناع القرار في دمشق أن يدركوا أن عودة العلاقات الثنائية مع دول المنطقة لن تمنحهم الشرعية. الشرعية تكتسب ولا تعطى.
هناك فرصة متاحة اليوم لعودة الشرعية، قد لا تتاح غدا، أو بعد غد، تتطلب من دمشق الشروع في مفاوضات جدية لحل النقاط الخلافية المتعلقة بعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم وضمان سلامتهم.
والأهم من ذلك الدعوة إلى حوار لا محرمات فيه، تناقش خلاله جميع القضايا، ويفضي إلى انتخابات شفافة.
علي قاسم – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة