توالت الاشتباكات بين جيشي «الصديقين» السابقين، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، والفريق أول محمد حمدان دقلو، نائبه، حتى ثلاثة أيام ماضية، في مجلس السيادة نفسه، وبذلك يدخل السودان، البلد المبتلى بالانقلابات العسكرية، مرحلة جديدة غير مسبوقة لا يكون الصراع فيها، بين القوى المدنية والأحزاب السياسية، والجيش، بل بين القوات المسلحة النظامية، وجيش آخر مواز لها، هو «قوات الدعم السريع».
قد يعرف المؤرخون لاحقا إن كانت قوات «حميدتي» قد قامت بهجوم استباقيّ على الجيش، حسب ما تشيع جهات الطرف الخصم، أم أن قوات البرهان هي التي بدأت الحرب، غير أن ما يهمّ الآن، أكثر من توثيق من قام بإطلاق «الطلقة الأولى» هو فهم السياق الذي تتخذه الأحداث، وتأثير صراع العسكر، وهم أيضا أصحاب نفوذ اقتصادي ومالي كبير في البلاد، على مصير ثورة ديسمبر/كانون أول 2019، التي أدت إلى سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، مع صعود أحلام السودانيين بانتخابات حرة ونظام ديمقراطي وحكم مدني.
إلى مساهمة تلك الثورة في بدء مرحلة سياسية جديدة في السودان، فإنها ساهمت أيضا، كما هو معلوم، في صعود نجمي البرهان وحميدتي، اللذين ورثا نظام البشير، وحاولا إعادة إحيائه، مع الانقلاب على حكومة عبد الله حمدوك في 25 تشرين أول/أكتوبر 2021، مما أدى إلى موجات لم تنقطع من الاحتجاجات، وتعليق الاتحاد الأفريقي عضوية السودان، ورفض الولايات المتحدة وأوروبا الاعتراف بالنظام الجديد، وأكدت جهات عديدة حينها، أن الانقلاب جاء بتنسيق مع دولة الإمارات.
قدّمت المعادلة المعتادة للصراع بين العسكر والمدنيين، والتي مثلها الانقلاب على حكومة حمدوك، تجليا للمصلحة المشتركة في التفاهم بين البرهان وحميدتي، وكان لهذا التفاهم أثمان خارجية تمثلت في نشر قوات سودانية في ليبيا واليمن، كما في الانسياق لتوجيهات أبوظبي، التي كانت قيادتها قد وقعت اتفاق تطبيع مع تل أبيب في العام السابق، لحاكمي السودان بالتقارب مع إسرائيل والعمل على التطبيع معها، وهو ما بدأ عمليا منذ لقاء البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وتبع ذلك الكثير من الزيارات المتبادلة، وتبادل الخدمات والمنافع والمعلومات، بين الأجهزة الأمنية والعسكرية، مع إعلانات متعددة عن قرب إعلان التطبيع.
حسب تقارير إسرائيلية نشرت أمس فإن مندوبين عن البرهان وحميدتي أجروا اتصالات مع إسرائيل عقب اندلاع المواجهات بين قواتهما، وأن وزارة الخارجية الإسرائيلية تقوم بـ«نقل رسائل تهدئة» ومطالبات بوقف التدهور العنيف. حسابات تل أبيب، في هذا الصدد، مشغولة، بالدرجة الأولى، باحتمالات تأجيل التوقيع النهائي على اتفاق سلام مع السودان، ولا يشغلها كثيرا الخراب الذي يتعرض له السودان، والتداعيات الخطيرة التي يمكن أن تتركها الحرب الناشبة على حياة السودانيين، ومسار التسوية السياسية.
أظهرت الأحداث الأخيرة في السودان، في المقابل، دورا مصريّا ملحوظا، تمثل بالحديث عن وجود عناصر عسكرية في مطار مروي، وما تبعه من بث «الدعم السريع» للقطات تظهر بعضا من أولئك العناصر مقبوضا عليهم، وكذلك حديث الجهة نفسها عن تدخّل «طيران أجنبي» وقد فُهم الأمر على أنه طيران مصريّ يقوم بدعم قوات البرهان.
تعود العلاقة التاريخية الشائكة بين السودان ومصر إلى حملة محمد علي باشا عام 1820، والتي أدت للسيطرة على البلاد (ومصرع ابنه إسماعيل باشا، قائد الحملة، حرقا) حتى عام 1885، واستتبعت خلال فترة الاحتلال الإنكليزي ـ المصري الذي امتد من عام 1899 حتى 1956 (العام الذي استقل فيه السودان) وما يزال هذا التاريخ يلقي بظلاله على مجمل المشهد السوداني المعاصر، كما يفسّر علاقات الحب والكراهية المعقدة بين الخرطوم والقاهرة.
الخلاصة المستفادة أن الصراع العسكري الراهن هو خطر كبير على السلم الاجتماعي العامّ في السودان، وعلى مسار التسوية السياسية التي كان العسكر والمدنيون يتفاوضون على طرق تحقيقها، ولكنّه مناسبة ثمينة لإمكانيات التدخّل والتبعية للخارج.
رأي صحيفة القدس العربي
المقالة تعبر عن رأي الصحيفة