تسرّع الكتاب العرب وبشروا بعصر صيني قادم؛ بشارة تذكّر ببشارة الشيوعيين للمنطقة حين قالوا إن عصر ماركس – لينين قد حل علينا.
السعودية وإيران بحثتا عن راع كبير للمصافحات بينهما، ووجدتاه في بكين
هل تذكرون المسلسلات المكسيكية المدبلجة؟ إنها الأب الشرعي للمسلسلات التركية المدبلجة التي تغزو فضائياتنا منذ أكثر من 15 عاما. أساس استقدام المسلسلات المكسيكية وبعدها التركية، هو التنويع على الاحتكار المصري الكبير لسوق الدراما. المكسيكيون والأتراك يمتازون بسحنة شبيهة بسحنة الناس في منطقتنا العربية. المكسيكيون مهاجرون من منطقة البحر المتوسط، والأتراك جزء متأصل في المنطقة، خصوصا بعد أن اختلطت الأعراق البيزنطية التي سكنت الأناضول بالأعراق التركية القادمة من وسط آسيا خلال ما يزيد عن ألف عام من حكم الأتراك للمنطقة. هذا يسهّل كثيرا تقديم هذه المسلسلات للمشاهد العربي. اختفت المسلسلات المكسيكية أو تراجع حضورها لصالح المسلسلات التركية الأقرب شكلا ومضمونا إلى الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة.
يجادل كثيرون، ونجادل معهم، بأن الأتراك استفادوا كثيرا من تأثير المسلسلات التركية المدبلجة على المشاهد العربي. المسلسلات الرومانسية ومسلسلات الجريمة والمغامرات فسحت مجالا للمسلسلات التاريخية، التي وإن حفلت بالمؤامرات النسائية في البلاط العثماني، إلا أنها عرضت صورة سياسية تركية عن مراحل تأسيس الدولة العثمانية والوصول إلى كون هذه الدولة قوة عظمى في المنطقة وإمبراطورية تتحكم في حوض البحر المتوسط.
لا يمكن الاستهانة بالتأثير الثقافي وقدرته على تغيير المزاج الشعبي العام. كانت الدولة العثمانية ذات سمعة سيئة بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما بعد انهيار السلطنة. حل الإعجاب بالغرب محل الخوف من السطوة العثمانية. الدولة العربية الحديثة، الملكية والجمهورية، هي صياغة غربية بامتياز. البعض تأثر ببريطانيا والآخر بفرنسا، كمنظومة حكم ودستور وأساليب إدارة. حتى دولة ما قبل الاستقلال المعاصر حاكت كثيرا النموذج الغربي. انظروا كيف تغير كل شيء في مصر بعد الحملة الفرنسية ووصول محمد علي باشا إلى الحكم وإعادة تأسيس الإدارة الحكومية والاقتصاد المصري على أساس التشبه بالغرب. ثم مال ورثة محمد علي إلى بريطانيا، وصولا إلى مرحلة الاستقلال.
◙ الانفتاح المتزايد على الصين ينبغي النظر إليه على أنه أداة من أدوات الدبلوماسية في المنطقة العربية لتقويم الميل الذي طرأ على العلاقات بينها وبين الغرب وليس استبدالها
استمر التأثير الغربي، ولم يتمكن الاتحاد السوفييتي بكل أيديولوجيته الماركسية من تحقيق اختراقات كبرى في المنطقة. اشترينا السلاح من السوفييت، ولكن بقينا نشاهد أفلام هوليوود. تمت ترجمة الأعمال الملحمية الروسية، ووزعتها البعثات الثقافية السوفييتية على القارئ العربي مجانا، لكن الإنتاج الأدبي والفكري والثقافي الغربي، بشكليه الأوروبي المنوع والأميركي الأنغلوساكسوني، بقي سائدا. لم تتمكن كل البعثات الأكاديمية العائدة من الدراسة في المؤسسات التعليمية السوفييتية من تحقيق أي تأثير يذكر في المشهد الثقافي والاجتماعي في المنطقة. بل وصل الأمر إلى استبعاد، مباشر أو ضمني، لخريجي الأكاديميات الأوروبية الشرقية في مجالات العلوم والطب والهندسة، من الجامعات والمؤسسات في بلادنا. يحتاج حامل شهادة الدكتوراه من جامعة موسكو أن يعيد “تعليم” نفسه النسق الغربي في الدراسة والعلوم، كي يجد فرصة عمل.
الجامعات الإيرانية تخرج اليوم مهندسين قادرين على صنع صواريخ بالستية ومسيّرات وينتظرون الإشارة لتجميع قنبلة إيران النووية. هذه الجامعات تخرج أطباء تجميل حولوا طهران إلى ورشة لتغيير شكل الأنف لعشرات الآلاف من النساء من منطقة الشرق الأوسط. لكن لأسباب ثقافية وبحكم عامل اللغة، لا أحد يذهب إلى جامعة إيرانية للدراسة في التخصصات غير الدينية. العراق الطائفي يرسل طلاب الهندسة والطب إلى الغرب، ويرسل طلبة الحوزات الدينية الشيعية إلى قم.
المسلسلات التركية، بما فيها التاريخية، أثرت في مزاج المنتمين أو المتأثرين بالحركات الدينية التقليدية في المنطقة، وخصوصا الحركات الإخوانية، لكنها لم تتمكن من اجتذاب الكثير من الدارسين العرب إلى الجامعات التركية. حتى من يذهب إلى تركيا للدراسة مضطرا أو بمنحة من الحكومة التركية، يختار الدراسة بالإنجليزية هناك. المسلسلات التركية المدبلجة غزت شاشاتنا، ولكن ليس الأدب التركي. ما نشتريه من تركيا من منتجات هو نسخ من الصناعة الغربية، شكلا وتصميما. اِلق نظرة على فترينات الأسواق العربية تجد فساتين غربية التصميم بقماش وخياطة تركيين، أو بضاعة تركية مقلدة عن لوي فيتون الفرنسية أو غوتشي الإيطالية أو رالف لورين – بولو الأميركية أو تيد بيكر البريطانية.
هناك الكثير من الحديث عن الدور الصيني في الشرق الأوسط. كالعادة، تسرّع الكتاب العرب وبشروا بعصر صيني قادم؛ بشارة تذكّر ببشارة الشيوعيين للمنطقة حين قالوا إن عصر ماركس – لينين قد حل علينا. الفرق، بالطبع، هو أن السوفييت أرسلوا إلينا شيوعيينا يحملون كتب الماركسية المترجمة، بينما يرسل الصينيون سيلا لا ينقطع من البضاعة الجيدة والرديئة. السوفييت كانوا يمنحون الدول الفقيرة عطايا وقروضا بشروط ميسّرة. الصينيون اليوم يمنحون القروض بشروط أخف من شروط صندوق النقد الدولي، ولكن بفوائد أعلى. الروس كانوا يتدخلون سياسيا في المنطقة. الصينيون لا يهمهم إلا تحقيق الربح.
◙ الجامعات الإيرانية تخرج اليوم مهندسين قادرين على صنع صواريخ بالستية ومسيّرات وينتظرون الإشارة لتجميع قنبلة إيران النووية
القول بأن الصين يمكن أن تستبدل النفوذ الغربي في المنطقة، طالما أن الأميركيين فقدوا اهتمامهم بالمنطقة، هو قول يتعمد إغفال الكثير من الحقائق. لدينا مشاكلنا الكبيرة مع الغرب، ولكن من الصعب تخيل أن الاستغناء عن الغرب هو حل لهذه المشاكل، أو أن الصينيين هم المنقذ الذي لا يحشر نفسه في قضايانا. السعودية وإيران بحثتا عن راع كبير للمصافحات بينهما، ووجدتاه في بكين. لكن السعودية، الغاضبة على إدارة جو بايدن، اشترت قبل أيام طائرات بوينغ الأميركية بـ37 مليار دولار. إيران تنتظر منذ أكثر من عشر سنوات المبادرة الصينية للدفع نحو رفع العقوبات أو جزء منها عبر مجلس الأمن. وحده الاتفاق النووي الإيراني – الأميركي عام 2015 خفف العقوبات عن طهران، وغضب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هو الذي أعادها.
الانفتاح المتزايد على الصين ينبغي النظر إليه على أنه أداة من أدوات الدبلوماسية في المنطقة العربية لتقويم الميل الذي طرأ على العلاقات بينها وبين الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة. تحميله أكثر من هذا يعيد أجواء تشبه أجواء الحرب الباردة وتأثيرها في منطقتنا خلال الستينات والسبعينات. لا يزال يتعيّن على الصين أن تحقق الكثير ذاتيا كي تتحول من قوة تجارية وصناعية عظمى إلى قوة عظمى ثقافيا وسياسيا.
جربت بعض شركات الإنتاج التلفزيوني دبلجة مسلسلات صينية باللغة العربية. بدا كل شيء غريبا ومفتعلا، بدءا من سحنة الممثلين إلى الحكاية التي يقدمها المسلسل، وصولا إلى حركة الشفاه التي لا تتطابق كثيرا مع مخارج النطق بين العربية والصينية. الافتراض أن الصين يمكن أن تحل محل الولايات المتحدة في الخليج والشرق الأوسط، يشبه الافتراض بأن في وسع الفضائيات العربية أن تكتفي بعرض مسلسلات صينية مدبلجة إلى اللهجة السورية. نعرف النتيجة مسبقا.
د. هيثم الزبيدي – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة