تتواتر الأخبار عن انسحابات تجريها القوات الروسية من سورية على وقع تصاعُد القتال في أوكرانيا، ما يترك فراغاً ترى فيه بعض القوى فرصة لإعادة تشكيل الواقع الاستراتيجي في سورية بما يتناسب مع مشاريعها الجيوسياسية، في ظل التحولات الهيكلية والاستراتيجية التي تعيشها المنطقة.
وكانت روسيا قد شكّلت في مرحلة سابقة معادلات شبه ثابتة، من خلال إدارتها للصراعات في سورية، عبر مزيج من الدبلوماسية والقوّة، وصناعة شبكة علاقات ومصالح مع جميع اللاعبين في الأزمة، إلا أن هذه الترتيبات -على ما يبدو- أخذت تضعف نتيجة استغراق روسيا في الحرب الأوكرانية بشكل كلي، واضطرارها لسحب بعض أصولها العسكرية لدعم موازين القوى في اوكرانيا لصالحها.
وقد أشارت صحيفة “موسكو تايمز”، التي تتخذ من هولندا مقراً لها، في أبريل الماضي، إلى أن روسيا نقلت العديد من وحداتها العاملة في سورية إلى أوكرانيا، وأكد على هذا الكلام مسؤولان إقليميان رفيعان، تمتلك بلادهما وسائل رصد ومتابعة، الأول ملك الأردن عبد الله الثاني، الذي حذَّر من الفراغ الذي تخلفه روسيا في سوريا، مُشيراً إلى أن إيران “تملأ هذا الفراغ”. وفي نفس السياق، اعتبر جاكوب ناجل، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، في مقالة نشرتها مجلة “نيوزويك” الأمريكية أن “انسحاب روسيا من سورية سيكون فرصة لإسرائيل”.
وتؤشر الترتيبات التي بدأ يجريها بعض الأطراف الفاعلة في الملف السوري إلى وجود توجهات لدى فاعليها تهدف إلى تغيير المعادلات السابقة وصناعة بدائل جديدة، من شأن تكريسها تغيير الوضع الجيوسياسي في المنطقة إلى الأبد، وقد تؤدي إلى تقسيم سورية واقعياً إلى أكثر من جمهورية، بخلاف تلك المسيطر عليها حالياً من قِبَل نظام الرئيس السوري بشار الأسد:
أولاً، جمهورية اللاجئين المفروضة تركياً
بعد إعلان تركيا مشروع إعادة مليون لاجئ سوري إلى مناطق معينة تقع تحت سيطرة الجيش التركي والجيش الوطني المعارض، أعلن الرئيس رجب أردوغان عن عزم بلاده الدخول إلى عمق ثلاثين كيلومتر داخل الأراضي السورية لفرض منطقة آمنة تستوعب اللاجئين السوريين، ويستغل أردوغان حاجة الغرب وروسيا لموقع تركيا الجغرافي المهم لفرض أجندته في سورية، المدفوعة باعتبارات داخلية تتعلق بشكل أساسي بضعف موقف حزبه “العدالة والتنمية” في الانتخابات المقبلة في صيف 2023، حيث استطاعت المعارضة التركية تحويل قضية اللاجئين إلى قضية رأي عام ضد أردوغان وحزبه.
جمهورية اللاجئين هذه من المقدر لها أن تتموضع على مساحة كبيرة على الشريط الحدودي بين تركيا وسورية، ومن شأن قيامها، تشكيل عازل يعزل أكراد سورية عن نظرائهم في تركيا، كما أن هذه الجمهورية، في حال تكرّسها، ستعمل على استنزاف طاقة الأكراد بمناوشات وصراعات، بعيداً عن تهديدهم للأمن القومي التركي.
ثانياً، جمهورية كردية مدعومة أمريكياً
لوحظ، مؤخراً، زيادة التعزيزات الأمريكية في مناطق شرق سورية، وعودة القوات إلى مناطق سبق أن انسحبت منها، وذهبت الترجيحات إلى أن الهدف من وراء ذلك، تأكيد الحضور الأمريكي في سورية بهدف تعزيز أوراق القوّة في مواجهة روسيا، التي من الممكن أن يتحوّل الصراع معها إلى مسارح عالمية عديدة بهدف إنهاكها والتخفيف من الضغط على أوروبا.
غير أن الإجراءات التي قامت بها واشنطن مؤخراً، على صعيد استثناء مناطق السيطرة الكردية في شرق سورية من عقوبات قيصر، والسماح بتدفق الأموال والاستثمارات، تؤشر بوضوح إلى اتجاه أمريكي يقضي بتدعيم كيانية مناطق سيطرة الأكراد، عبر تحقيق الاستقلال الاقتصادي، بما يساعد في تثبيت هياكل الحكم الناشئة، وترسيخ أدوات السلطة الكردية، التي تتجه بدورها لتثبيت هذا الواقع، حيث يفسر الكثير من القراءات أن الإحصاء الذي بدأت الإدارة الذاتية الكردية القيام به في مناطق شرق سورية قد يكون الهدف منه مقدمة لإجراء استفتاء حول استقلال المنطقة عن سورية.
ثالثاً، جمهورية الكبتاجون الإيرانية في جنوب سورية
تسعى إيران، في ظل انشغال روسيا بحربها الأوكرانية، إلى إعادة تعزيز نفوذها في جنوب سورية، الذي سبق أن جرى تقليصه الى حد بعيد تنفيذاً لتفاهمات روسية-إسرائيلية- أردنية، ويبدو أن إيران التي فشلت سابقاً في إيجاد بيئة صديقة في جنوب سورية عبر أداة التشيُّع وتقديم الأموال وصناعة أدوات تنفذ مخططاتها، اتجهت منذ فترة إلى بدائل أخرى، أقل كلفة، وقد تكون مفاعيلها حاسمة في ترسيخ نفوذ إيران في منطقة استراتيجية حاكمة، سواءً لقربها من إسرائيل، أو نظراً لكونها إحدى بوابات الخليج العربي عبر الأردن.
وتتركز وسائل إيران في ترسيخ نفوذها على ركيزتين أساسيتين: أولاهما، خلق الفوضى أو تحريكها بشكل دائم، وهو ما يتجلى عبر عمليات الاغتيال اليومية التي تشهدها درعا، والصراعات المتواترة في السويداء، والتي تهدف بشكل لا لبس فيه إلى تفريغ المنطقة من المعارضين والقوى الرافضة لإيران في جنوب سورية. والركيزة الثانية، تحويل الجنوب إلى مصنع وممر للمخدرات إلى دول الخليج العربي، وقد أسست لذلك شبكات ضخمة في جنوب سورية ينخرط بها ضباط في الجيش والأجهزة الأمنية، فضلاً عن قياديين سابقين في فصائل المعارضة وأشخاص مؤثرين في مناطقهم، والهدف من وراء ذلك تفتيت مجتمع جنوب سورية وجعل السيطرة فيه بيد أدوات إيران، حيث سيمتلك هؤلاء المال إضافة للسلطة والقوّة، ما يجعل تأثيرهم حاضراً في توجهات سورية، حتى لو رحل بشار الأسد عن السلطة.
والواقع، أنَّه في ظل استبعاد إمكانية أن تتخلى روسيا عن نفوذها في سورية، لما يعنيه هذا الوجود من تعزيز للرصيد الاستراتيجي الروسي على المستوى العالمي، لكن تداعيات الحرب الأوكرانية واحتمالاتها المفتوحة على آفاق عديدة، قد تُضعِف القبضة الروسية في سورية بشكل كبير، ما يضطرها إلى إجراء تسويات مع اللاعبين الآخرين، أو إعادة تموضع لقواتها ضمن المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى بالنسبة لروسيا (الساحل السوري تحديداً)، لعدم توفر الموارد اللازمة لدعم سيطرتها على كامل التراب السوري، وبالتالي خلق المناخ المناسب والفرص لتقسيم سورية، في ظل تعب المجتمع الدولي من الأزمة السورية بعد مُضي أكثر من عقد دون وجود ضوء في نهاية النفق.
الخلاصة
ظلت مشاريع التقسيم حاضرة في قلب الصراع السوري بوصفها مخارج محتملة لصراع المشاريع الجيوسياسية للفاعلين المؤثرين، واستطاعت روسيا، عبر جملة من التكتيكات والاستراتيجيات، إطفاء محركات هذه المشاريع انطلاقاً من وضعها للملعب السوري تحت مظلتها الحمائية، وحصولها على اعتراف، ولو ضمني، بهذا الحق، شرط مراعاتها للتوازنات الإقليمية والدولية في إدارة هذه الساحة. لكن يبدو أن تراخي القبضة الروسية، أو احتمال تراخيها، بفعل الصراع في أوكرانيا، قد أعاد تحريك شبح مشاريع التقسيم في سورية، وأوجد حالة من التسابق بين اللاعبين المؤثرين هناك لإعادة تفعيل مخططاتهم السابقة وبعث الروح في مشاريع، يبدو أنها لم تمت، بل جرى تسكينها إلى حين تهيُّؤ الفرص المناسبة.
المصدر: مركز الإمارات للسياسات