الغارات الجوية الإسرائيلية تدفع طهران إلى التراجع الاستراتيجي مع تدهور العلاقات السورية الإيرانية
لقد أثرت حرب غزة بشكل كبير على الوجود العسكري الإيراني في سوريا، مما دفع طهران إلى وضع استراتيجية لإجلاء أعضاء الحرس الثوري الإيراني ونقل مقرها البارز من ريف دمشق إلى مناطق قريبة من لبنان. ويأتي هذا القرار في أعقاب الغارات الجوية الإسرائيلية التي أسفرت عن مقتل العديد من كبار القادة.
كما أدت الحرب إلى توتر العلاقات بين البلدين. وأدى اعتماد دمشق لموقف “محايد” خلال الصراع إلى تراجع ملحوظ في العلاقات، كما يتضح من الخلاف بين حكومتي إيران وسوريا.
بالإضافة إلى ذلك، هناك شكوك متزايدة من جانب طهران بشأن احتمال قيام أجهزة الأمن السورية بتسريب معلومات حول تحركات الضباط الإيرانيين. كما أبدت طهران قلقها من رد فعل دمشق على بوادر التقارب العربي ورغبتها في الخروج من عنق الزجاجة الإيراني عبر تطبيع العلاقات مع الغرب.
وفي الأول من نيسان من العام الماضي، استهدفت إسرائيل القنصلية الإيرانية المجاورة لسفارتها على طريق المزة السريع في دمشق، مما أسفر عن مقتل سبعة أفراد، من بينهم محمد رضا زاهدي، قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان.
خطط الخوف والإخلاء
كشف أفراد محليون يرافقون مستشارًا إيرانيًا في سوريا عن مخاوفهم العميقة بشأن سلامتهم بعد الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة. كشفت مصادر من الميليشيات غير السورية التابعة لإيران، والمتواجدة في ريف دمشق، أن إيران تضع خططاً لإجلاء الحرس الثوري الإيراني من سوريا، بسبب الضغوط الإسرائيلية المتصاعدة.
ويأتي استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، والتي وصفتها إسرائيل بـ”غرفة عمليات الحرس الثوري الإيراني” في سوريا ولبنان، بعد أن كثفت إسرائيل حملتها ضد الوجود العسكري الإيراني في سوريا منذ بدء الحرب في قطاع غزة في تشرين الأول الماضي.
ولا تستهدف الغارات والصواريخ الإسرائيلية الآن المواقع والميليشيات العسكرية الإيرانية في المناطق الحدودية فحسب، بل تستهدف أيضًا الأفراد بدءًا من النشطاء وقادة الميليشيات إلى قادة الحرس الثوري في جميع مناطق الحكومة السورية.
السيدة زينب: مقر الإيرانيين
وفي منطقة السيدة زينب جنوب دمشق، وهي معقل تقليدي للوجود العسكري الإيراني والميليشيات التابعة لها، كان هناك اختفاء ملحوظ للعناصر المسلحة بعد عمليات عسكرية إسرائيلية كبيرة.
وقد أصبح هذا أكثر وضوحا بعد مقتل رضي موسوي، قائد قوة الاتصال التابعة للحرس الثوري الإيراني في سوريا، خلال غارة إسرائيلية في كانون الأول الماضي وغارة جوية لاحقة في يناير أدت إلى مقتل مسؤول استخبارات في الحرس الثوري الإيراني وضابط في فيلق القدس في حي المزة.
وبحسب صحيفة الشرق الأوسط، فإن الانتشار العسكري في السيدة زينب يقتصر الآن بشكل أساسي على حزب الله، لا سيما حول منطقة الضريح، التي لا تزال تجتذب الزوار الشيعة من مختلف البلدان، بما في ذلك إيران والعراق ولبنان وباكستان وأفغانستان.
وعلى الرغم من هذه التغييرات، أكد السفير الإيراني حسين أكبري بعد مقتل موسوي أن إيران ليس لديها أي نية للانسحاب عسكريا من سوريا. ونقلت صحيفة الوطن السورية، المعروفة بقربها من الحكومة السورية، عن أكبري تأكيده على استمرار وجود المستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا دون تغيير.
منذ بداية الصراع السوري، كانت إيران داعمًا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا كبيرًا للنظام السوري. وزعم المرصد السوري لحقوق الإنسان أن ما يقرب من 3000 عضو من الحرس الثوري الإيراني، بما في ذلك المقاتلون والمستشارون العسكريون، يتمركزون حاليًا في سوريا. ومع ذلك، تصف طهران رسميًا هؤلاء الأفراد بأنهم مجرد “مستشارين” لمساعدة قوات الحكومة السورية.
القيادة والتأثير
وفي الوقت نفسه، يلعب حزب الله دوراً محورياً باعتباره القوة المهيمنة بين الميليشيات الشيعية في سوريا، ويحتل موقعاً مهماً تحت قيادة الحرس الثوري الإيراني. وهم يشاركون بنشاط في العلاقات المجتمعية، مثل استئجار الشقق والفيلات للمستشارين الإيرانيين وتعويض أصحاب العقارات الذين تعرضوا لأضرار بسبب الضربات الإسرائيلية.
علاوة على ذلك، يعطي قادة حزب الله الأولوية للحفاظ على علاقات إيجابية مع الأغلبية السنية في سوريا وتعزيز العلاقات الجيدة مع المجتمعات المحلية في مناطق الانتشار، مثل القصير في ريف حمص ومنطقة القلمون في الريف الغربي لدمشق.
وعلى النقيض من سلوك الميليشيات العراقية الذي لا يخضع للرقابة في كثير من الأحيان، فإن السلطات السورية تنظر إلى النهج المنضبط الذي يتبعه نشطاء حزب الله وقادته بشكل إيجابي. ووفقاً لمصدر مقرب من الحكومة السورية، فإن قيادة حزب الله كثيراً ما تلعب دوراً وسيطاً، مما يخفف التوترات بين المسؤولين السوريين والعناصر الأجنبية الأخرى، بما في ذلك العراقيون والإيرانيون.
وقال مسؤول سوري كبير نقلا عن المصدر إن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله استخدم نفوذه لدى الرئيس السوري بشار الأسد للتوسط وحل الخلافات المختلفة، خاصة خلال فترات التوتر المتزايد في العلاقات السورية الإيرانية. والجدير بالذكر أن نصر الله دافع علناً عن موقف سوريا بعدم التورط في حرب غزة، مما يوضح دوره كشخصية استقرار في السياسة الإقليمية.
التفكك السوري
وخلافاً لحلفاء إيران في لبنان والعراق واليمن، كانت السلطات السورية حذرة من عدم الانجرار إلى حرب غزة. ونتيجة لذلك، ظلت جبهة مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل هادئة نسبيًا، مع مناوشات محدودة من قبل الميليشيات التابعة لإيران. وشملت هذه المناوشات عادة إطلاق قذائف على الجزء المحتل من الجولان، سقط معظمها على الأراضي الزراعية وأسفرت عن أضرار طفيفة.
تشير مصادر في دمشق إلى أن الإيرانيين غير مستعدين لفهم قرار سوريا بالبقاء على الحياد في صراع غزة والامتناع عن الانخراط في القتال. بالإضافة إلى ذلك، فإنهم مصرون على رفض دمشق فتح جبهة الجولان.
ويرى الإيرانيون أن جهودهم للدفاع عن النظام السوري مكلفة ولا تقدر بثمن. وفي المقابل، يبدو أن النظام قد انجذب إلى الحوار الغربي، حيث ينظر إلى موقفه القائم على النأي بالنفس والتردد في فتح جبهة الجولان باعتباره مكافأة محتملة، وهو ما يثير استياء الإيرانيين إلى حد كبير.
علاوة على ذلك، يرى بعض المسؤولين السوريين أن أي مكاسب إقليمية تحققها إيران تضر بمصالح دمشق. في بداية حرب غزة، كان النظام يخشى احتمال التوصل إلى اتفاق إيراني أميركي.
وسط التوترات بين دمشق وطهران، أصبح المستشارون الإيرانيون في سوريا نقطة خلاف بين الجانبين، حيث نُقل عن جنرال إيراني تعبيره عن أسفه لعدم أهميتهم في سوريا مقارنة بوضعهم في إيران، حيث كانوا يتمتعون بسلطة كبيرة على محافظة ما ونال احترام السكان.
ومع استهداف إسرائيل للعديد من كبار الضباط الإيرانيين الذين دعموا النظام السوري، ومع قيام الرئيس الأسد باستبدال شخصيات رئيسية في الأجهزة الأمنية والعسكرية السورية، فإن العلاقة السورية الإيرانية التي كانت قوية ذات يوم تتعثر.
ويتفاقم هذا التدهور بسبب شكوك إيران غير المعلنة بشأن تسريب أجهزة الأمن السورية لمعلومات حساسة عن ضباط إيرانيين إلى إسرائيل، مما أدى إلى القضاء عليهم. ويساهم ابتعاد دمشق بنفسها عن إيران في هذا التراجع.
وتتزامن هذه التطورات مع المخاوف الإيرانية بشأن المشاركة العربية المتزايدة لسوريا، لا سيما بعد اتفاقيات طهران مع الولايات المتحدة، ولا سيما اتفاق الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان في تشرين الأول 2022.
وفي آب الماضي، كشفت وثيقة حكومية سرية من الرئاسة الإيرانية، تسربت إلى وسائل الإعلام، أن طهران أنفقت 50 مليار دولار على الحرب السورية على مدى عقد من الزمن، معتبرة إياه “ديناً” يتم سداده عبر الاستثمارات ونقل الفوسفات والنفط والغاز وموارد أخرى لإيران. وبينما وصف المسؤولون السوريون الوثيقة بأنها لا أساس لها من الصحة عندما واجهها نظرائهم الإيرانيين، رفض الأخير التعليق.
نقلت مصادر متتبعة لديناميكية العلاقات السورية الإيرانية عن مسؤول سوري قوله: “لقد انحزنا إلى الإيرانيين، لكن العديد من وعودهم لم يتم الوفاء بها، ونحن الآن نبحث عن مخرج من هذا المأزق. هذه فرصتنا، وعلينا أن نغتنمها من أجل مستقبل بلدنا”.
وجاء هذا التعليق في إشارة إلى تصريح سابق للسفير الإيراني في دمشق، حسين أكبري، أشار فيه إلى أن إيران تلقت رسالة من الولايات المتحدة تشير إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن مستعدة لتسوية كبيرة من شأنها معالجة القضايا الإقليمية.
بالإضافة إلى ذلك، كشفت حرب غزة عن تباين متزايد في وجهات النظر والمصالح بين طهران ودمشق. وتشير المصادر إلى أن دمشق ترى فرصة لتطبيع علاقاتها مع الدول الغربية بسبب موقفها من الصراع في غزة، على غرار تصرفاتها عام 1990، عندما انضمت إلى التحالف الدولي ضد غزو صدام حسين للكويت.
ومن ناحية أخرى، تساور طهران شكوك بأن تعيين اللواء كفاح ملحم، المعروف بموقفه المناهض لإيران، لرئاسة مكتب الأمن القومي السوري يشير إلى تحول نحو سياسة أمنية داخلية أكثر تشدداً وأقل تأثراً بإيران.
وتشير الدلائل الأخيرة إلى تراجع العلاقات السورية الإيرانية، التي توصف تاريخياً بـ”الراسخة”. ومن هذه المؤشرات غياب التمثيل الإيراني، وصور القادة الإيرانيين والأمين العام لحزب الله في فعالية “يوم القدس العالمي” في مخيم اليرموك جنوب دمشق.
بالإضافة إلى ذلك، بينما تبادل الرئيس الأسد التهاني بمناسبة شهر رمضان مع العديد من القادة العرب، حذفت وسائل الإعلام الرسمية السورية والإيرانية، على غير العادة، أخبار التهاني المتبادلة بين الرئيسين الأسد وإبراهيم رئيسي، والتي امتدت إلى احتفالات عيد الفطر.
أين روسيا؟
أما بالنسبة لروسيا، الحليف الوثيق لدمشق، والتي أدى تدخلها العسكري أواخر أيلول 2015 إلى تغيير ميزان القوى الإقليمي، فيقول خبير سياسي لـ”الشرق الأوسط”: “كان الروس في البداية قلقين بشأن اتفاق أميركي إيراني محتمل في المنطقة بعد طوفان الأقصى، مما دفعهم إلى تعزيز وجودهم العسكري والسياسي وتعزيز العلاقات مع دمشق”.
وقد لعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دوراً مباشراً في الجهود الرامية إلى إبقاء النظام السوري محايداً في الصراع في غزة، حيث أجرى اتصالات استراتيجية مع الدول العربية الرئيسية وإسرائيل.
أدى التدخل العسكري الروسي إلى تحويل الدفة لصالح الحكومة السورية، مما أتاح تحقيق مكاسب كبيرة على الأرض ضد فصائل المعارضة المسلحة. ومع ذلك، جاء ذلك على حساب المنافسة المتزايدة مع طهران في مختلف المجالات، من النفوذ إلى الاقتصاد إلى المجالات الثقافية واللغوية.
فبينما تنظر الميليشيات العراقية إلى سوريا باعتبارها امتداداً طبيعياً تسعى إلى فرض سيطرتها عليه، وهو ما يعكس طموحات الرئيس العراقي السابق صدام حسين، يرى حزب الله في سوريا حليفاً لا غنى عنه يوفر عمقاً استراتيجياً ويعمل كممر حاسم للأسلحة.
وهم يعتمدون على سوريا للتخفيف من تأثير أي صراع إسرائيلي كبير في جنوب لبنان. وفي الوقت نفسه، يعطي الإيرانيون الأولوية لسوريا بسبب موقعها الاستراتيجي وفوائدها، بهدف تسخير نفوذها داخل الجامعة العربية.
لكن رفض دمشق الانخراط في فتح جبهة الجولان ضد إسرائيل، واختارت بدلاً من ذلك موقف “النأي بالنفس” ضمن الإجماع العربي، أثار غضب إيران وخيب أملها.
المصدر: gulfnews
ترجمة: أوغاريت بوست