أدت الفظائع التي ارتكبت في بوتشا وماريوبول ومدن أوكرانية أخرى إلى رفع حدة الحرب الروسية في أوكرانيا إلى مستوى جديد تمامًا. رداً على ذلك، قامت الدنمارك وإستونيا وإيطاليا ولاتفيا والسويد وإسبانيا والولايات المتحدة وعدد قليل من الدول الأخرى بطرد أكثر من 325 دبلوماسيًا روسيًا من بعثات موسكو.
في الوقت نفسه، فإن آلية العقوبات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعمل على قدم وساق، وروسيا مستهدفة طبقة تلو الأخرى من الإجراءات العقابية. في فترة زمنية قصيرة، تجاوزت روسيا إيران باعتبارها الدولة الأكثر معاقبة في العالم، وتلوح القوى الغربية بمزيد من الإجراءات للضغط على الاقتصاد الروسي بغية استسلام الكرملين وتخليه عن حملته العدوانية العسكرية.
تم استخدام العقوبات بشكل تدريجي كوسيلة لفن الحكم على مدى عقود، وكانت الولايات المتحدة هي المستخدم الأول لهذه الإجراءات القسرية. في الوقت الحالي، هناك ما لا يقل عن 24 دولة مستهدفة بالعقوبات الأمريكية، والتي هي إما جزئية أو كاملة عبر قطع كامل العلاقات التجارة مع بلد ما، كما يحدث مع إيران.
العقوبات الاقتصادية لها دعاة صريحون في كل من البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي الذين يميلون إلى التفاؤل المفرط بشأن الآثار التي يمكن أن تحدثها هذه الحزم على حسابات الحكومات التي تسيء التصرف. ولكن هناك أدلة كثيرة على أن العقوبات أصبحت مختلة بشكل متزايد، بل انتهى بها الأمر في بعض الأحيان إلى إحداث تأثير عكسي من العصيان والسلوك الخبيث.
تعتبر ملحمة العقوبات على إيران، المطبقة منذ عام 1979، مثالًا نموذجيًا على كيفية فشل العقوبات في تغيير سلوك الحكومة التي يعتبرها المجتمع الدولي غير مسؤولة وضارة بالسلام والأمن العالميين.
لقد سُحقت إيران بفعل العقوبات الاقتصادية التي فرضتها إدارة كارتر لأول مرة في عام 1979 رداً على أزمة الرهائن، ثم تطورت مع مرور الوقت إلى هيكل متطور لمعاقبة إيران بسبب برنامجها النووي ومغامراتها الإقليمية، وكذلك سجل حقوق الإنسان.
وبلغت هذه العقوبات ذروتها في حملة “الضغط الأقصى” للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، باختصار، كانت فاشلة. كانت التكاليف الإنسانية للعقوبات هائلة، وكان على المجتمع المدني الإيراني والطبقة الوسطى أن يدفعوا ثمناً باهظاً، سواء كان ذلك في شكل الحرمان من الأدوية والطيران الآمن حيث أقر وزير الخارجية الإيراني آنذاك محمد جواد ظريف أن العقوبات الأمريكية فرضت أضرارًا على الاقتصاد الوطني تصل إلى تريليون دولار.
ومع ذلك، على الرغم من أن المواطنين الإيرانيين عانوا من اقتصاد متوتر وحياة أصبحت غير محتملة بشكل متزايد، مما دفعهم أحيانًا إلى اقتحام الشوارع وتنظيم احتجاجات مناهضة للحكومة، فإن العقوبات الهائلة لم تفعل شيئًا يذكر لتغيير سلوك الحكومة العام. وهناك من يشير إلى أنهم قد أنتجوا قوة معاكسة من خلال جعل سلوك طهران الإقليمي وأولوياتها النووية أكثر راديكالية.
على وجه الخصوص، في أعقاب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي لعام 2015، سرّعت إيران سباقها إلى عتبات نووية جديدة ونكثت بالتزاماتها بموجب الاتفاق من خلال تخصيب اليورانيوم، وحتى بذل جهد إضافي لإنتاج اليورانيوم. هذه بعض المؤشرات الأساسية على أن الضغط الاقتصادي أدى إلى نتائج عكسية.
دليل آخر على هذا الافتراض هو التصعيد الإيراني المحفوف بالمخاطر في الخليج العربي، واستهداف المنشآت النفطية السعودية من خلال وكلائها من الحوثيين، وكاد يخوض حربًا مع الولايات المتحدة بعد إغراق قاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار العراقية بالصواريخ انتقاماً لاغتيال قاسم سليماني في كانون الثاني 2020.
تحمل روسيا العديد من السمات المميزة لنموذج الحكم الاستبدادي في إيران. أوراق اعتمادها الديمقراطية شحيحة، وهناك استعداد ضئيل للانفتاح على العالم وإظهار الشفافية والمساءلة، والحريات المدنية والحقوق الاجتماعية غير مضمونة. تعد روسيا أيضًا قوة عالمية كبرى، وبإنفاق دفاعي سنوي قدره 61.7 مليار دولار اعتبارًا من عام 2020، وتفتخر بأنها تمتلك ثاني أكبر جيش في العالم. وتنتج أسلحتها الخاصة وتصدر كميات ضخمة، بما في ذلك الطائرات المقاتلة، إلى العملاء التقليديين.
العقوبات الصارمة وسحب الاستثمارات والحظر، مهما كانت شاملة ولاذعة، لن تستطيع اركاع دولة عسكرية مثل روسيا أو أن تثنيها عن المزيد من العدوان في أوكرانيا، كما أنها لن تمنع مغامراتها المحتملة في أوروبا.
تجربة إيران هي قصة تحذيرية مفادها أن الأنظمة الاستبدادية العنيدة – لا سيما تلك الغنية باحتياطيات الطاقة والتي لديها حلفاء مستعدين لمنحهم شرايين الحياة الاقتصادية في أوقات الأزمات – لا يمكن انضباطها بالعقوبات الاقتصادية، لا سيما بالنظر إلى الثغرات العديدة للنظام المالي الدولي وتضاؤل دور الدولار الأمريكي، والذي يتراجع تدريجياً أمام العملات المحلية الأخرى.
ربما لا يزال هناك مؤيدو العقوبات الذين يعتبرونها بديلاً للحملات العسكرية والحروب المكلفة، ولكن الحقيقة هي أنه يتم تجريدهم من قوتهم مع إضافة المزيد من البلدان إلى قائمة الدول الخاضعة للعقوبات، مما يعني أنهم يكتسبون المعرفة- كيفية العيش في ظل العقوبات والالتفاف عليها ومشاركة تلك المعرفة مع الآخرين المستهدفين.
المصدر: مجلة الفورين بوليسي
ترجمة: أوغاريت بوست