ومع اقتراب العام من نهايته، يجد الشرق الأوسط نفسه مليئاً بمزيج من الدهشة والأمل والتأمل الحذر في الأحداث المفاجئة التي أعادت تشكيل ديناميكياته.
لقد قدم لبنان أول تطور غير متوقع بعد أن أضعفت إسرائيل بشدة القدرات العسكرية لحزب الله، ولكن سوريا تظل أيضاً محاطة بعدم اليقين.
من السابق لأوانه التخلص من أي مخاوف بشأن مستقبل سوريا، التي لا تزال تلقي بظلالها الطويلة، مع عواقب ليس فقط على نفسها بل وأيضاً على لبنان والعالم العربي والمنطقة الأوسع.
لا يمكن إنكار الفرح في سوريا بعد الإطاحة بحكومة بشار الأسد. ومع ذلك، في حين أن ظهور “سوريا الجديدة” يشعل التفاؤل، فإن الحذر أمر حكيم، وخاصة في هذه المرحلة الانتقالية.
من ناحية أخرى، فإن التفاؤل بشأن لبنان مبرر، ولكن فقط إذا التزمت جميع الأطراف المعنية باتفاق وقف إطلاق النار بين بيروت وإسرائيل. إن الزعماء اللبنانيين لابد وأن يتبنوا نهجاً جديداً وجاداً لبناء الدولة، نهج يقوم على النزاهة ويبتعد عن الفساد والمساومات السياسية التي عانت منها البلاد تاريخياً وساهمت في انحدارها.
لا شك أن التطورات في سوريا تمارس تأثيراً كبيراً على استقرار لبنان. وأي انزلاق إلى الفوضى في سوريا من شأنه أن يشكل تهديداً خطيراً لمسار لبنان نحو التجديد.
ومع ذلك، فمن الممكن تحصين لبنان ضد أي تداعيات ــ شريطة وقف انتهاكات اتفاق وقف إطلاق النار من جانب كل من إسرائيل وحزب الله. فضلاً عن ذلك، لابد وأن تحرز الدول الضامنة تقدماً في استكمال ترسيم الحدود بين البلدين، بعد الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من جميع الأراضي اللبنانية.
والواقع أن آلية تنفيذ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 تقدم للبنان فرصة تاريخية لتأكيد سلطة الدولة على كامل أراضيها وضمان خضوع كل الأسلحة لسيطرة الدولة حصرياً.
إن الاختبار الحاسم لهذا العصر الجديد في العلاقات السورية اللبنانية سيكون رد سوريا على السؤال: هل مزارع شبعا سورية أم لبنانية
إن حزب الله يدرك هذا الواقع ويفهم أن الآلة العسكرية الإسرائيلية مستعدة للتحرك إذا انتهكت شروط اتفاق وقف إطلاق النار. وعلاوة على ذلك، فإن قيادة حزب الله بارعة في تفسير المشهد الإقليمي وتدرك أن النكسات التي تواجهها هي وإيران في سوريا ليست مجرد مصادفات بل أحداث محورية ذات آثار عميقة.
إن خصائص ورسائل الإدارة السورية الجديدة تشير إلى استعدادها للشروع في فصل جديد مع لبنان – فصل يبتعد عن أنماط الوصاية السورية وقمع الحكم الذاتي اللبناني وفرض “الترابط المتبادل بين المسارات” في تعاملاتها مع إسرائيل.
لقد منع هذا الترابط المتبادل لفترة طويلة أي من الدولتين من السعي إلى اتفاق سلام مستقل، حتى لو أدى ذلك إلى إنهاء الاحتلال. إن انتهاك الحكومة السورية السابقة للسيادة اللبنانية يكمن في قلب إرثها القمعي.
ولقد أشارت القيادة السورية الجديدة إلى التزامها بعدم التدخل في الشؤون اللبنانية. وهذا يعني بالتالي استعدادها لقبول ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية، الأمر الذي قد يمهد الطريق أمام اتفاقيات السلام بمجرد انتهاء الاحتلال.
وسوف يكون الاختبار الحاسم لهذا العصر الجديد في العلاقات السورية اللبنانية هو رد سوريا على السؤال السنوي الذي يطرحه الأمين العام للأمم المتحدة: هل مزارع شبعا سورية أم لبنانية؟
وإذا اعتبرت المنطقة سورية، فسوف تظل تحت سلطة قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك حتى تتوصل سوريا وإسرائيل إلى اتفاق سلام ثنائي. ولكن إذا اعترفت الحكومة الجديدة في دمشق بمزارع شبعا كمنطقة لبنانية، فسوف تتحول المفاوضات إلى لبنان وإسرائيل، الأمر الذي يتطلب تفكيك قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك هناك ونقل المنطقة إلى لبنان.
ولكن مثل هذا السيناريو يظل غير محتمل بسبب تعقيد العملية والمخاطر الكامنة في تفكيك قوة فض الاشتباك. وسوف يشكل نهج الإدارة السورية الجديدة في التعامل مع هذه القضية عاملاً حاسماً في تشكيل الديناميكيات الإقليمية وعلاقتها بلبنان.
إن الطريق إلى تحييد قضية مزارع شبعا يمكن أن يتم من خلال توضيح سوري قاطع للمسألة، وهذا بدوره بمثابة اختبار حقيقي لمدى صدق الإدارة السورية الجديدة في تعزيز علاقة تحويلية مع لبنان. وإظهار مثل هذا الصدق أمر بالغ الأهمية في تأكيد نواياها الجديدة في علاقتها بجارتها.
إن تطبيع العلاقات مع لبنان لن يفيد لبنان فحسب، بل سيعزز سوريا أيضاً، في حين تتغلب على مجموعة من التحديات في جهودها لإعادة اختراع نفسها.
ولكن سوريا في وضع حرج، وصفه شخص مطلع على الشؤون الدولية بأنه “يمشي على جليد رقيق”. وينبع هذا الهشاشة من الانقسامات الرأسية الداخلية المرتبطة بتفكيك الحكومة القديمة والانقسامات الأفقية بين الفصائل المختلفة.
إن التفاؤل الأولي والاندفاع نحو التهنئة الذي ميز افتتاح فصل جديد مع سوريا ما بعد الأسد سرعان ما يفسح المجال للحقائق القاسية لمشهدها السياسي. فقد ظهرت بوادر عدم الاستقرار حتى قبل الانتخابات التي من المرجح أن تُعقد في آذار.
وبفضل النفوذ الكبير الذي تتمتع به تركيا في سوريا اليوم، فإنها تخشى من دعم الولايات المتحدة للمناطق ذات الأغلبية الكردية في البلاد، على الرغم من الدعم الواضح من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب لقرارات أنقرة بشأن سوريا.
وإذا سحبت الولايات المتحدة أفرادها ودعمها لهذه المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، فهناك خطر حقيقي يتمثل في تحول القوات التي تسيطر عليها إلى التطرف وشن أعمال انتقامية ضد المصالح التركية والأميركية.
ولكن هل من الممكن أن تعترف إدارة ترامب القادمة بأهمية التمييز بين الفصائل الكردية التي تصنفها تركيا على أنها “إرهابية” والجماعات الأخرى التي يقودها الأكراد، مثل قوات سوريا الديمقراطية، التي كانت شريكة للولايات المتحدة في سوريا. ولكن الفشل في التصرف بمثل هذه الدقة لا يهدد فقط بالانتقام من تركيا، بل ويهدد أيضا بزعزعة استقرار الجهود الأوسع نطاقا لضمان الاستقرار في سوريا.
والواقع أن سوريا تظل في قلب حالة من عدم اليقين والخطر. ولا ينبغي لنا أن نتجاهل التقارير التي تتحدث عن استعداد الجماعات المتطرفة لتحويلها إلى مركز لنسخة أكثر تطورا من داعش. وإذا أهملت القوى الدولية، وخاصة الولايات المتحدة، هذه التحذيرات، فقد تحول عن غير قصد التقدم الذي حققته سوريا بشق الأنفس إلى كارثة.
إن دعم سوريا الجديدة يتطلب إعطاء الأولوية لظهورها كدولة حديثة وعلمانية وشاملة، موحدة تحت هوية وطنية متماسكة. وهذا يستلزم منع البلاد من الوقوع في فخ المشاكل في المناطق ذات الأغلبية الكردية، مع تعزيز العلاقات الطبيعية بين سوريا ولبنان كدولتين ذات سيادة. ومن جانبها، يتعين على إسرائيل أن تتخلى عن سياساتها العدوانية تجاه السيادة السورية، وأن تلتزم بدلاً من ذلك بإنهاء احتلالها لأراضيها.
إن الفرحة المبررة بهذه اللحظة الانتقالية لابد وأن تصاحبها رؤية مشتركة للتنمية في كل من لبنان وسوريا ــ وهما دولتان لهما جذور عريقة ومصيران متشابكان. وفي الوقت الحاضر، يتقدم كل منهما على جليد رقيق للغاية.
المصدر: صحيفة ذا ناشيونال
ترجمة: أوغاريت بوست