الولايات المتحدة متواجدة في شمال شرقي سوريا، وقد تراجعت عن الانسحاب الذي أعلن عنه الرئيس دونالد ترامب في نهاية العام الماضي. ورغم أنها تقرّ بأحقية روسيا في النفوذ بسوريا، إلا أنها تعطّل عليها هذا النفوذ، من خلال عدّة أمور؛ وهي: منع النظام من عبور نهر الفرات، ودعم توجهات قوات (ومجلس) سوريا الديمقراطية، الكردية- العربية، في الحصول على الإدارة الذاتية، والتنسيق مع تركيا حول إنشاء منطقة أمنية على حدودها الجنوبية مع سوريا، والتحكم والتأثير في الملفات الأخرى، كملف الجنوب القريب من حدود إسرائيل، وملف إدلب الذي يشهد تصعيدا كبيرا، وصراعا روسيا- تركيا، بأياد سورية.
بالإضافة إلى ذلك هناك حزمة من العقوبات الاقتصادية الأميركية التي تستهدف النظام السوري، والمرافقة لـ”قانون قيصر” لحماية المدنيين، حيث يتم طبخها في دوائر القرار على مهل في الكونغرس ومجلس الشيوخ والبيت الأبيض، وقد وقع التلويح بها مرارا.
وهناك الفيتو الأميركي على عودة التطبيع العربي مع النظام السوري، سواء في ما يتعلق بالعلاقات الثنائية، أو موقف جامعة الدول العربية باستمرار تجميد عضوية سوريا فيها. وهناك استمرار الضغط على دولتي الجوار؛ لبنان والأردن، لمنع عودة اللاجئين دون تحسن ظروف الداخل. وهناك القيود الأميركية على تمويل إعادة الإعمار، وجعله مشروطا بتقليص التواجد الإيراني في سوريا، والانتقال السياسي وفق مبادئ جنيف1 والقرار 2254، وإنهاء الإرهاب، المتمثل في تنظيمي”داعش” و”القاعدة”.
ويحضر الخلاف الأميركي الأوروبي من جهة، والروسي من جهة أخرى، حول مسؤولية النظام السوري عن استخدام السلاح الكيمياوي، حيث يريد الطرف الأميركي- الأوروبي أن يكون عمل لجنة التحقيق الدولية بخصوص تحديد مسؤولية النظام عن استخدام السلاح الكيمياوي في أكثر من منطقة، محصورا بمنظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، وتوسيع صلاحيات هذه المنظمة، ما يعني إمكانية محاسبة النظام السوري.
في المقابل، تريد روسيا تسييس الملف في مجلس الأمن من أجل استخدام حق النقض (الفيتو) بخصوص أي قرار يعاقب ويحاكم نظام الأسد حول هذه الجرائم. وأعربت الولايات المتحدة مجددا عن شكوك تساورها بأن النظام السوري استخدم أسلحة كيمياوية (غاز الكلور السام)، الأحد الماضي، في إدلب شمال غرب سوريا، وتجمع معلومات عن وقوع هذا الهجوم المفترض، وتعهّدت بالرد السريع في حال ثبوته، كما فعلت بعد قصف مدينة دوما بالسلاح الكيمياوي العام الماضي.
كلّ ذلك يشكّل ضغوطا على روسيا للتخلي عن نظام الأسد، الأمر الذي ما زالت موسكو ترفضه، لكونها وضعت كل رهاناتها على بقائه في المدى المنظور، وإعادة هيكلة وبناء جيشه، والاستمرار في ابتزازه لتوقيع عقود “استثمار” في القطاعات والمرافق الاقتصادية الحيوية، الأمر الذي يعتبر بمثابة تنازلات من النظام، وأن يكون الحل السياسي من وجهة النظر الروسية وفق مقررات مؤتمر سوتشي “للحوار الوطني” المنعقد في مطلع 2018، أي عبر لجنة دستورية ودستور يمر من تحت قبة برلمان النظام.
بالعودة إلى ما تريده الولايات المتحدة من الملفّ السوري، لا تشكّل سوريا مطمعا لها للنفوذ لولا وقوعها في منطقة الشرق الأوسط، حيث واشنطن مهتمة بالنفط العراقي والخليجي، وبتحجيم إيران ومعاقبتها، ومهتمة أيضا بأمن إسرائيل، وبعدم السماح للنفوذ الروسي بالتمدد في البحر المتوسط.
هذا ما تظهره الاستراتيجية الأميركية “الجديدة”، حيث يعتزم البنتاغون إعداد خطة لنشر خمسة آلاف من الجنود الإضافيين في الشرق الأوسط، واقتراب الضربة العسكرية لإيران يعني إرسال المزيد من القوات، حيث تقدّر تقارير سابقة بأن واشنطن تحتاج إلى 100 ألف جندي من أجل ضربة عسكرية مؤثرة على البرنامج النووي الإيراني.
تشير الانحرافات المستمرة في الاستراتيجية الأميركية إلى حجم التخبّط والخلافات بين مؤسسات القرار الأميركية، فقبل ستة أشهر كانت التوجهات تفضل الانسحاب من الشرق الأوسط، مقابل تعزيز التواجد في الباسيفيك لمواجهة خطر الصين الاقتصادي؛ لكن تشدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب حيال الملف النووي الإيراني، والتصعيد الكلامي، ثم بالتضييق الكامل على صادرات النفط الإيراني، جعله مضطرا للمواجهة، ولم ينفعه انتظار مكالمة روحاني، التي قد لا تأتي، لكون إيران تمتلك أوراقا عديدة للمناورة، خصوصا في ما يتعلق بالتدخل في سوريا ولبنان واليمن، والأهم من ذلك كله نفوذها في العراق، إضافة إلى قدرتها على خلق منافذ للتهريب والتخفيف من أثر العقوبات. تورط واشنطن في مواجهة التعنت الإيراني سيعني تعزيز تواجدها بقوة، والاستعداد لضربة محتملة، وإن كانت لا تفضّلها إدارة ترامب، تماشيا مع وعوده الانتخابية بعدم التدخل العسكري والانسحاب، وهو على أبواب انتخابات رئاسية في العام المقبل.
يمكن القول إن واشنطن تقرّ بالنفوذ الروسي في سوريا، لكنها لا تحققه دون شروط تضمن مصالحها؛ تتعلق هذه الشروط أولا، بأمن الحليف الإسرائيلي، خاصة بعد تزويد النظام السوري بمنظومة أس- 300، والتي تعني قدرة روسيا على تقييد الضربات الإسرائيلية على مواقع إيران وحزب الله في سوريا. وثانيا، بتحجيم إيران في سوريا، ومنعها من الوصول إلى شرق الفرات، ومن بناء معابر وتأمين “كوريدور” يمر بالعراق وسوريا إلى لبنان.
ولا ترغب روسيا في التواجد الإيراني بسوريا ومنافسته لها على النفوذ، لكنها لن تحارب هذا التواجد بما يحقق المصالح الأميركية، إلا باكتمال صفقة روسية- أميركية حول سوريا، تتمكّن بها موسكو من الاستفادة من الموارد النفطية والغاز والمحاصيل الزراعية في شرق الفرات، عدا عن أن موسكو غاضبة من التقارب الأميركي- التركي حول المنطقة الأمنية.
ويتعلق الشرط الثالث بمنع التنظيمات المتطرفة وخاصة “داعش” و”القاعدة” من العودة وملء الفراغ في المناطق غير المحسومة من حيث البت في خضوعها لنفوذ إحدى الدول، مثل شرقي الفرات وإدلب. وهناك شرط أميركي غير معلن، يتعلق بالحد من النفوذ الروسي في مياه المتوسط بعد سيطرة روسيا على القاعدة البحرية في طرطوس.
لم تشأ أميركا يوما، ومنذ عهد باراك أوباما، أن تطيح بالنظام السوري، من باب تحقيق طموحات الشعب السوري، أو حماية المدنيين كما تقول، لكن الملف السوري هو أرض خصبة لممارسة الضغوط الأميركية على روسيا، وتوجيه رسائل ومحاذير؛ وتتمثل هذه الضغوط في التلويح بالعقوبات على نظام الأسد، والتأكيد على اشتراط التغيير السياسي للحل في سوريا.
وفي الوقت الذي يحاول فيه المبعوث الدولي إلى سوريا، غير بيدرسون، تشكيل منصة تجمع ضامني اتفاق أستانة مع المجموعة المصغرة؛ الأميركية- الأوروبية- العربية، إضافة إلى الصين، يأتي التوتر بين واشنطن وطهران ليعطل إمكانية تقريب وجهات النظر حول التسوية السورية.
رانيا مصطفى – كاتبة سورية – صحيفة العرب
ملاحظة: المقالة تعبر عن رأي الكاتبة والصحيفة