شبح أفغانستان جديدة يلوح في شبه جزيرة القرم وتركيا تواصل رعاية المتطرفين.
يُعد إدخال موسكو لهيئة تحرير الشام على خط الصراع في القرم إيذانًا بفتح سيناريوهات شرق أوكرانيا على احتمالات متعددة، لأن الخطوة تحمل اتهامًا مبطنًا للولايات المتحدة قبل تركيا بالرغبة في خلط الأوراق داخل الحدائق الخلفية لروسيا عبر توظيف ورقة الجهاديين، ما يشي بالرغبة في تكرار ما حدث من سيناريوهات في أفغانستان خلال ثمانينات القرن الماضي، حيث ستتولى أنقرة تصدير المتطرفين إلى أوكرانيا.
القاهرة – اتهمت روسيا الولايات المتحدة ودولا منضوية في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، الثلاثاء الماضي، بتحويل أوكرانيا إلى برميل بارود في ظل زيادة الإمدادات العسكرية لها، وقيام واشنطن وبعض حلفائها بحديث متواتر عن حشد غير مبرر لعدد من الجنود الروس على الحدود مع أوكرانيا.
وهذا التطور يأتي بعد أن اتهم الأمن الروسي مؤخرا جهات لم يسمها بنقل عناصر هيئة تحرير الشام المسيطرة على مدينة إدلب السورية إلى منطقة القرم، الخاضعة حاليا لهيمنة موسكو، معلنا عن إحباط عملية إرهابية هناك.
وورد في بيان عن هيئة الأمن الفيدرالي الروسي أن قوات الأمن أحبطت تفجيرا بمدينة سيمفروبول عاصمة إقليم القرم المتنازع عليه بين كييف وموسكو، وأنها اعتقلت روسيين ينتميان إلى الهيئة التي يقودها المتطرف أبومحمد الجولاني، حيث كانا يخططان لتفجير إحدى المؤسسات التعليمية في المدينة، ثم الهرب عبر أوكرانيا وتركيا إلى سوريا.
وقصد توقيت إصدار البيان والإعلان رسميا عن حضور هيئة تحرير الشام في القرم إحراج واشنطن، التي رفضت تحركات موسكو في شرق أوكرانيا باعتبارها خطوات معادية هدفها ترهيب شركائها، خاصة أن التصريحات التي أطلقها مسؤولون أميركيون دعمتها على الأرض تحركات عسكرية عندما ذكرت وسائل إعلام غربية أن الأميركيين يدرسون إرسال سفن حربية إلى البحر الأسود بهدف إظهار الدعم لكييف.
وتعمد طرح اسم هيئة تحرير الشام في هذا التوقيت هدفه الضغط على واشنطن ودفعها إلى التراجع عن إظهار الدعم لأوكرانيا في ظل احتمال تنامي التوتر الحاصل في منطقة دونباس وتطوره لحرب جديدة، ما ينذر بأزمة دولية ونزاع مسلح ممتد بين موسكو وحكومة كييف المدعومة أميركيّا.
كبح التدخل الأميركي
تحرص موسكو، التي واصلت حشد قواتها عند حدود أوكرانيا ويتحرك جنودها في القرم وعلى الحدود المشتركة في دونباس قرب أراض خاضعة لسيطرة انفصاليين مدعومين من الكرملين، على كبح التدخل الأميركي في المسألة الأوكرانية عبر التلويح بورقة هيئة تحرير الشام، عقب ظهور الجولاني في صحف ووسائل إعلام غربية بمظهر عصري، معلنًا عدم العداء لواشنطن والعواصم الغربية المتحالفة معها، وكاشفًا عن حبال الود الممدودة بين الهيئة والولايات المتحدة.
وينطوي الإعلان الروسي عن انتقال أحد الكيانات المرتبطة بالقاعدة إلى مساندة السياسات الأميركية في شرق أوكرانيا على رسالة مفادها استعادة واشنطن، تحت الإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدن الذي أعلن عزمه على التصدي لروسيا في هذا الفضاء الإستراتيجي ولمعاقبتها على ضم القرم، أدوات الحرب الباردة ضد روسيا والصين عبر توظيف ورقة الجماعات الجهادية وتيارات الإسلام السياسي المتطرفة.
ولا ينفصل هذا التطور عن الشأن السوري، حيث تراقب موسكو محاولات تنظيمات معادية لها داخل سوريا، في مقدمتها هيئة تحرير الشام، لفرض نفسها كجزء من التفاهمات والتسويات السياسية المستقبلية، إذ تراهن على نيل اعتراف دولي بها وإزالتها من قائمة المنظمات الإرهابية باعتبارها حركة معارضة محلية ومعتدلة.
وتحرص روسيا على عدم حصول تحول من هذا النوع لأنه يعزز نفوذ الولايات المتحدة والغرب في الملف السوري على حسابها، فمحاولات هيئة الجولاني لتغيير جلدها سبقتها دلائل على دفع أميركي بهذا الاتجاه، بالنظر إلى تركيز واشنطن في سوريا على مواجهة داعش والنفوذ الإيراني واستهداف الفصائل القاعدية المناوئة للهيئة، بينما ظل التعاطي السلبي مع قادتها وعناصرها من قبل الولايات المتحدة في أدنى مستوياته.
وتعاقبت الإشارات الدالة على قرب إظهار واشنطن موقفا مختلفا من هيئة تحرير الشام بعد رفع اسم الحركة الإسلامية التركستانية من قوائم الإرهاب الأميركية بالنظر إلى العلاقات الوطيدة التي تربط بين الجهاديين التركستان وهيئة الجولاني، وهو ما أعقبه مباشرة بيان ترحيب من الهيئة مُعربة عن أملها في صدور قرار قريب مشابه بخصوصها.
نشاط هيئة الجولاني في القرم سيكتب السطر الأخير في صفحة صداقة أردوغان ببوتين إذ لم تنفع في حل أزمته بإدلب
وأطلق مسؤولون غربيون تصريحات تشي بتبني رؤية معتدلة حيال الهيئة، منها ما قاله جيمس جيفري المبعوث السابق للتحالف الدولي لمكافحة داعش عندما وصفها بأنها “الخيار الأقل سوءا وتمثل مصدر قوة إستراتيجية لأميركا في إدلب”.
وتهدف موسكو عبر الإعلان عن نقل عناصر هيئة تحرير الشام إلى ساحة الصراع في أوكرانيا وتنفيذهم عمليات إرهابية في شبه جزيرة القرم إلى إثبات عدم صحة سردية الهيئة المتعلقة بكونها جماعة معارضة محلية.
ويريد الروس إبرازها كمنظمة جهادية عابرة للحدود بغرض إفشال مساعي قادتها إلى نيل الدعم والقبول الغربي والأميركي لرفع اسمها من قائمة المنظمات الإرهابية وتكريس حضورها ونفوذها في الشمال السوري.
ونجاح الهيئة في التحول إلى حركة مقاومة شعبية وكيان سياسي محلي مدعوم من الغرب من شأنه إعاقة الخطط الروسية في القضاء عليها، لأنها تؤرق موسكو وتمثل عامل إزعاج قوي لها في شمال غربي سوريا.
وتتوخى روسيا إفشال إستراتيجية التلون والتحول من حالة إلى أخرى التي برعت فيها هيئة الجولاني وصولًا إلى شرعنة وجودها العسكري باعتراف أميركي وغربي، وهي التي طالما عانت من هجمات مدبرة من قبلها عبر طائرات مسيرة على محيط قاعدتها في حميميم باللاذقية.
وتعتبر الهيئة إحدى المنغصات الرئيسية لروسيا داخل سوريا كونها أقوى التنظيمات الإرهابية في شمال البلاد، حيث تملك قوات قوامها 12 ألف مقاتل، ولفضائها الحيوي بالنظر إلى أن هناك المئات من عناصر الهيئة من أصول روسية، وهو ما تعتبره موسكو خطرًا على أمنها القومي.
تركيا في مواجهة روسيا
جيمس جيفري: هيئة تحرير الشام تمثل الخيار الأقل سوءا للولايات المتحدة
يبدو الإعلان الأخير عن ضبط عناصر متطرفة تنفذ عمليات إرهابية في القرم إيذانا من موسكو لضرب محاولات إضفاء الشرعية الدولية على هيئة تحرير الشام، والتحضير لتصعيد عسكري روسي بالشمال السوري، ما يعني قرب تنفيذ عمليات عسكرية مشتركة مع الجيش السوري ضد الهيئة داخل إدلب.
ويقول مراقبون إن نشاط الجولاني، الذي يحظى بغطاء سياسي ودعم عسكري تركي في حدائق روسيا في القرم، قد يكتب السطر الأخير في صفحة الصداقة التي أقامها الرئيس رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين ولم تُجدِ نفعًا في حل أزمته المتفاقمة في منطقة إدلب.
وفشل أردوغان من خلال التعاون والتنسيق مع موسكو في تكريس نفوذه بالشمال السوري يدفعه إلى الاستدارة صوب إدارة بايدن لإصلاح علاقته بها، بعدما صارت إدلب كأنها فيتنام لتركيا وخسارة جيشها العديد من مقاتليه إثر هجمات متفرقة شنها النظام السوري.
ولم يعد بوسع أردوغان اللعب على ازدواجية ترامب – بوتين، التي مكنته من إحراز بعض المكاسب والنجاحات الضئيلة في الشمال السوري من خلال التقرب من كليهما معًا، وتوظيف هذا التناقض لتمرير سياسات تتعارض مع مصالح أميركا وتنتفع من وراء النفوذ الروسي.
ويرمي التحول التركي الأخير باتجاه الولايات المتحدة والغرب إلى مواجهة روسيا لتثبيت مكاسب أنقرة في الملف السوري وتفادي أية إجراءات أميركية عقابية تهدد مستقبل نظام حزب العدالة والتنمية السياسي.
وتواترت الدلائل على دخول أنقرة في سياق حلف جديد في مواجهة روسيا في الشرق الأوسط، ومن ضمنها إعلان الوكلاء الجهاديين في إدلب تبنيهم رعاية وحماية المصالح الغربية وتقويضهم للكيانات والفصائل المعادية للغرب وتحولهم إلى أطراف معارضة وطنية لا علاقة لها بالجهاد العالمي العابر للحدود، والدعوة المباشرة التي وجهها الرئيس التركي إلى إدارة جو بايدن والقوى الغربية لدعمه ومساندته في مواجهته المقبلة مع روسيا.
من إدلب إلى القرم
طرح اسم هيئة تحرير الشام في هذا التوقيت هدفه الضغط على واشنطن ودفعها إلى التراجع عن إظهار الدعم لأوكرانيا
كشف الإعلان عن نقل عناصر هيئة تحرير الشام إلى الحدود الأوكرانية وتنفيذ عمليات تستهدف المصالح الروسية في القرم، مع دخول أنقرة على خط أزمة أوكرانيا بتزويد حكومة كييف بمُسيرات بيرقدار، عن الكثير من تفاصيل العلاقة المتوترة بين موسكو وأنقرة.
وقد أعلنت القوات المسلحة الأوكرانية أنها أجرت مناورات في أجواء البحر الأسود مستخدمة فيها مسيرات بيرقدار بي تي 2 تركية الصنع، فضلًا عن عزم أردوغان شق قناة إسطنبول، وهو ما دفع موسكو إلى المطالبة باحترام اتفاقية مونترو وضبط حركة دخول السفن الحربية الأميركية إلى حوض البحر الأسود عبر مضائق البوسفور والدردنيل.
وينطوي إقدام تركيا على خطوات من شأنها توتير علاقاتها مع روسيا والذهاب إلى مناكفتها داخل فنائها الخلفي على يأس تركي من إمكانية مواصلة التفاهم مع روسيا والحفاظ على النجاحات التي كانت قد أدت إلى هدنة ووقف هش لإطلاق النار، في ظل المتغيرات التي صاحبت قدوم إدارة بايدن.
وإذا كانت أنقرة تحرص على كسب ود واشنطن عبر التحول لمواجهة موسكو من إدلب وحتى القرم من خلال الضغط بورقة هيئة تحرير الشام وإمكانية تحولها إلى كيان عابر للحدود، فإن موسكو بعثت برسالة لأنقرة مفادها أنها ما دامت تقوم برعاية تنظيم إرهابي يستهدف مصالحها في سوريا وأوكرانيا لن تتردد في تصفية ملف إدلب والجماعات المتطرفة الموالية لتركيا في الشمال السوري والمهددة لأمنها القومي بطريقتها الخاصة.
والدور التركي الحالي ليس كافيا لتفادي استئناف هجمات النظام السوري على إدلب والمناطق الخاضعة للفصائل المسلحة الموالية لأنقرة بعد أن توقف التنسيق التركي الروسي والدوريات المشتركة على طول الطريق السريع واستئناف روسيا للضربات الجوية من حين لآخر.
ويعكس الاصطفاف التركي المنتظر مع أميركا والقوى الغربية هواجس أنقرة المتزايدة من إمكانية استغلال هذا الوضع الهش بعد أن وصل الحوار الروسي – التركي بشأن مستقبل إدلب إلى طريق مسدود ومع عدم وجود عملية دبلوماسية لمعالجة التباين بين المواقف التركية الروسية لتعزيز وقف إطلاق النار سياسيًا وحل معضلة هيئة تحرير الشام.
وخشيت أنقرة من استغلال اضطراب العلاقات مع واشنطن بعد مغادرة الرئيس السابق دونالد ترامب لإحداث تغييرات كبيرة في مشهد إدلب ضدها، ما يهدد بتعقيد المأزق مع وجود الملايين من اللاجئين السوريين في تركيا واحتمال الدفع بمئات الآلاف الجدد مع أي تطور عسكري في إدلب.
ويمثل تنفيذ هجمات كبرى منسقة بين الحكومة السورية وروسيا عصفا بجهود هيئة تحرير الشام لتكريس هيمنتها على إدلب، فخسائرها الميدانية والعسكرية أدت إلى تقليص مساحات نفوذها وأفقدتها القدرة على المناورة.
وفي حال تقدمت قوات النظام السوري داخل عمق إدلب ستتحول الهيئة إلى حرب العصابات وتُفتح أبواب الانشقاقات على مصراعيها لتخليها عن الجهاد العابر للحدود وكبح نشاطات كبار شخصيات القاعدة وإعطائها الأولوية للسيطرة على إدلب.
ويهدف الخروج من قمقم إدلب والدفع لمناكفة روسيا داخل فضائها الحيوي إلى الضغط على إدارة بايدن كي تلعب دورا في تجنب التصعيد العسكري في الشمال السوري ضد تركيا وحلفائها الجهاديين.
ويعود توسيع أنقرة وهيئة الجولاني مساحة المواجهة ضد روسيا خارج حدود إدلب والشمال السوري إلى أن أي معركة جديدة في سوريا ستكون في عمق مناطق نفوذ تركيا ومهددة لحدودها الجنوبية، فضلًا عن غموض مستقبل الهيئة التي تتحسب لمواجهة تصورها موسكو على أنها حاسمة ضد الإرهاب.
وسلط الضغط على روسيا انطلاقًا من القرم الضوء على خطط مقايضة ومساومات بين شبه الجزيرة وشمال غرب سوريا، بهدف تخفيف الضغوط على تركيا والدفع نحو إيجاد طرق سياسية لحل عقدة هيئة تحرير الشام في إدلب بمعزل عن التصعيد العسكري.
هشام النجار – كاتب مصري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة