فصل المقال يكمن في طبيعة الحلف الوليد المسمى على اسم بلاد الشام، فهو لن يكون مجرد خطة طموحة للتكامل الخدمي والتجاري وحسب بل هو سهم سينغرس في قلب الهلال الشيعي.
إرادة سياسية عالية
لعل من أمتع صور مراسم الاستقبال التي تقيمها دولة مضيفة لرئيس جمهورية ضيف هو ما شاهدته خلال حفل الاستقبال الرسمي الذي أقامته دولة العراق للرئيس المصري وأيضا للعاهل الأردني استعدادا لمؤتمر القمة الذي جمع الزعماء العرب الثلاثة، مصطفى الكاظمي وعبدالفتاح السيسي وعبدلله بن الحسين، بل وتميّزت أنها الزيارة الأولى لرئيس مصري إلى العراق بعد انقطاع امتد 30 عاما.
ما أغراني في مراسم الاستقبال تلك أن رئيس الوزراء العراقي كان يصاحب ضيفيه عبر ممرات القاعات التي عبقت بموسيقى حية لبلاد الرافدين تعزفها جوقة من الشابات والشباب لتملأ القصر الرئاسي عبقا قادما من تاريخ حمورابي العريق حيث نُظم أول قانون في عمر البشرية.
أما الصبايا البابليات من المضيفات للقمة، اللواتي ارتدين أزياء تمثّل الحقب الحضارية التي مرّت على بلاد الخصب والسلام والجمال على امتداد آلاف السنين، فجئن ليسبغن على المشهد الاحتفالي ألقاً على ألق. ولعل تلك المراسم – على رمزيتها – تشي بنزوع جديد يتشكّل في العقل السياسي للمنطقة نحو استرجاع صور من التاريخ الثقافي النضير لشعوب بلاد الشام التي شكّلت بنيتها التحتية الحضارية والثقافية عبر الآلاف من السنين خزانا للعلوم والأدب وفنون الحكم وشرائع القانون، مازالت البشرية تنهل من نبعه السابق للعصور حتى يومنا هذا.
أما عن الأرضية السياسية للقمة الحالية التي هي الرابعة في سلسة اجتماعات متعاقبة بهدف تشكيل حلف جيوسياسي بمسمّى “الشام الجديد” سيضمُّ بداية العراق والأردن ومصر، مع إمكانية انضمام دول إقليمية شقيقة في المستقبل، ترتبط جغرافيا وتتقارب سياسيا مع نهج الدول الثلاث، فتبدو أكثر رسوخا وقوة بسبب ارتفاع منسوب الإرادة السياسية لدى الدول الثلاث في تحويل هذا المشروع المستقبلي من الفكرة إلى الواقع العملي المعيش.
المشروع تغيب عنه سوريا رغم أنها نواة بلاد الشام حسب جغرافيا ما قبل سايكس بيكو، وأن عاصمتها دمشق – حاضرة الأمويين – تُدعى الشام أيضا. أما الغياب الدرامي لدولة بحجم سوريا لها شراكاتها التاريخية مع دول الجوار، فمردُّه المباشر يعود إلى طبيعة الحلف الذي أدخلت به حكومة الأسد البلاد في رباط عقائدي لا ينفصم مع دولة ولي الفقيه في إيران. بينما يهدف الشام الجديد إلى إعادة العراق للحضن العربي بعد سنوات من محاولات مستميتة من حكومة طهران لابتلاع قرار بغداد السياسي والأمني والاقتصادي، وإلحاقها بالحال السوري واللبناني على مأساويته، حيث كلمة الميليشيات التي يديرها الحرس الثوري وفيلق القدس من طهران هي العليا، ولا يد فوق يدها.
اجتماع نواة دول الشام الجديد يبدو في معطياته الأولية حلفا ذا منافع استراتيجية ستتبادلها الدول الثلاث؛ فالعراق، بموارده النفطية الهائلة، سيرفد الحلف بشريان النفط الذي سيمتد عبر أنبوب لنقل البترول العراقي من مدينة البصرة إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط في شمال مصر مرورا بميناء العقبة جنوب الأردن، ما سيسمح بوصول النفط العراقي إلى سواحل المتوسط لتصديره إلى أوروبا بأسعار منافسة نظرا لما سيحققه هذا الأنبوب من تخفيض في كلفة النقل.
كما يطمح المشروع إلى تبادل الخبرات والطاقات مع مصر ذات الموارد البشرية الهائلة، إلى جانب تشجيع تيسير استيراد الصناعات المصرية التي ستكون وجهتها القادمة أسواق العراق، كما ستكون لمصر الأولوية أيضا في توريد الكهرباء إلى العراق بأسعار زهيدة على مبدأ تبادل المنافع الاستثمارية والإنمائية بين البلدين.
أما الأردن بموقعه الوسطي بين البلدين وعلاقاته الدولية المعتدلة التي غالبا ما تقف على مسافة واحدة من أغلب القوى ذات النفوذ في المنطقة، وبموارده البشرية وصناعاته الخفيفة ولاسيما الغذائية التي ستنشّط دورة المال وتنعش اقتصاد المملكة من خلال توريد صناعاته في الاتجاهين، فسيكون المردود الاقتصادي على دخله القومي جزءا من الفائدة الكبرى التي سيجنيها من الحلف الجديد. الجزء الأكثر أهمية من المنفعة الأردنية سيكون سياسيا بامتياز متمثّلا في قطع الطريق على مشروع “الهلال الشيعي”، وهو المشروع بعيد المدى لدولة العمامات السود في إيران الذي بناه أصحابها على جماجم ودماء الشعوب حيث الحكومات الأوتوقراطية التي ساهمت بتسهيل تغلغل ميليشيات إيران الطائفية وحرسها الثوري إلى أرضها حتى غدت وشعوبها رهينة لديها، والحكم الطائفي في سوريا وفي لبنان خير مثال على الغزو الإيراني الدموي الممنهج لدول ذات سيادة أنّى وجدت طهران لها سبيلا.
توقيت هذه القمة استراتيجي بامتياز، وهي تبعث رسالة واضحة إلى الدول الراعية لاجتماعات فيينا مع الطرف الإيراني للوصول إلى اتفاق نووي جديد مع حكومة طهران، بأن لا ضرورة للاستعجال في اتفاق لا يضع حدا واضحا مدعما بالعقوبات الرادعة ليس فقط للمشروع النووي الإيراني، بل لمشاريعها العسكرية متعددة الأذرع التي تستخدم الأسلحة غير التقليدية كطائرات الدرون محلية الصنع ورخيصة التكلفة للهجوم على المدنيين في دول الجوار وضرب المنشآت الحيوية، لا تفرّق بين هدف عسكري أو مرفق مدني.
فصل المقال يكمن في طبيعة هذا الحلف الوليد المسمّى على اسم بلاد الشام والحامل لهيبتها وثقلها التاريخي؛ فهذا الحلف لن يكون مجرّد خطة طموحة للتكامل الخدمي والتجاري وتبادل المنافع التنموية والاستثمارية وحسب، بل هو سهم سينغرس في قلب الهلال الشيعي الذي أرادته إيران قوسا طائفيا عابرا للحدود يقوم على نزعة التطرّف والتبعية لولي الفقيه بعد أن أعملت ميليشيات حرسه الثوري خراباً وقتلاً وفِتَناً، في العراق وسوريا ولبنان وصولاً إلى اليمن، بغرض السيطرة وتدمير القلب الحي من العالم العربي كما حدث لدمشق الأسيرة.
مرح البقاعي – كاتبة سورية أميركية – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة