الحرب سوف تنتهي بهزيمة روسيا ولكن ليس لأنها ستفقد كل الأراضي التي احتلتها بل لأن “مفرمة اللحم” ستكون مكلفة وسوف يرى عامة الروس أنهم يدفعون بأبنائهم إلى الجحيم دون طائل.
حرب ورقة المناورة الأخيرة
خسارة الحروب، بحسب التاريخ الروسي، تعني خسارة السلطة. هذه حقيقة تكاد تكون مطلقة. والرئيس فلاديمير بوتين يعرفها جيدا.
فعل بوتين شيئين لكي يبتعد بنفسه عن نتائج الحرب:
الأول، هو أنه أوكل قيادتها إلى نخبته العسكرية، وكلّف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف بإدارة عمليات الإنتاج الحربي لتوفير ما تحتاجه تلك النخبة.
والثاني، هو أنه جعل كل المحيطين به أكثر تطرفا وعدوانية منه، لكي يوحي للغرب، بشيئين:
أ- هو أنه أفضل مَنْ يمكن التفاوض معه. وكلف ميدفيديف، على سبيل المثال، لكي يكون مدير إدارة الرعب النووي، الذي كلما طار طير في سماء موسكو هدد باستخدام الأسلحة النووية.
ب- هو أن الحرب سوف تستمر إلى ما لا نهاية، حتى تحقق “العملية العسكرية الخاصة” أهدافها.
◙ انتفاضة الروس، بحسب خبرة التاريخ، ليست بالضرورة جولة واحدة. في الفترة الفاصلة بين جولتين، سوف يلملم فلاديمير بوتين أغراضه ليرحل، قبل أن يقتحم عليه الجنود مقره، ويعلقوه من قدميه في الساحة الحمراء
وأهداف الحرب هي، في حدها الأقصى، الاستيلاء على نحو 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية، وفي حدها الأدنى، المحافظة على شبه جزيرة القرم، وإيجاد سبيل لحماية الأقلية الروسية داخل أوكرانيا، وفقا لصيغة مطوّرة من اتفاقات مينسك.
انتفاضة فاغنر لم تكن بالضرورة تهديدا مباشرا له. ولكنها كانت بمثابة تأكيد على المقاربتين أعلاه نفسيهما. فهي، من ناحية، كانت انتفاضة ضد النخبة العسكرية باعتبار أنها هي “قائد المعركة”. وهي تأتي، من ناحية أخرى، من جهة طرفٍ أكثر تطرفا منه.
الحرب إذا انتهت بالهزيمة، كما هو متوقع، فإن “قائد المعركة” هو الذي سوف يخسر. وليس بوتين نفسه.
“الرئيس المنتخب من الشعب” (وهذا اللقب برز خلال الانتفاضة عن غير عبث) قال لنخبته العسكرية، افعلوا ما تشاؤون، واحصلوا على كل ما تريدون من الموارد، إن لم يكن من أجل كسب الحرب، فمن أجل عدم خسارتها على الأقل، أي بما يكفي لكي تفتح طريقا للتفاوض يحقق أيّ هدف يقع بين الحدين الأدنى والأقصى من أهداف الحرب.
الحقيقة الأخرى، هي أن بوتين صنع صفّين من الحماية الشخصية لنفسه. أو خندقين، بكلمة أخرى.
الأول، هو أن الصف الأول من النخبة المحيطة به، صفٌّ شديد الولاء له. وبوتين لم يتوجه لهذا الصف بالتهديد بالعزل أو الإقالة، لكي لا ينقلب عليه مستقبلا. ولهذا السبب، فإنه وقف إلى جانب وزير دفاعه سيرغي شويغو عندما تعرض هذا الأخير إلى الانتقادات العنيفة والتهديدات من جانب زعيم مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين.
والثاني، هو أنه، مع ثقافة التطرف القومي، ومع الولاء الشديد له، رأى كيف يتحول هذا الولاء إلى “مصلحة شخصية” لأطراف تلك النخبة، وتعمد غض النظر عنها، ليس لأنها تصب في مصلحته في النهاية فحسب، وإنما لكي تكون، في حالة الخسارة، حسابا عليهم وليست حسابا عليه.
القادة العسكريون، في هذا المضمار، هم الذين ظنوا أن غزو أوكرانيا سوف يكون مجرد نزهة، وأقنعوه بذلك، بل وربما ألحّوا عليه، بما كان يريد أن يقتنع به أصلا. وكانوا يطمعون من وراء ذلك في أن يحققوا مكاسب شخصية جمة، بالاستيلاء على مقدرات وثروات دولة كاملة، كانت ذات يوم جزءا من الاتحاد السوفياتي. وهو ما يوفر غطاء، ليس للأطماع الإمبراطورية وحدها، ولكن للأطماع الشخصية أيضا.
◙ الحرب لن تتوقف بالضرورة في تلك الساعة، لأنها ستكون ورقة المناورة الأخيرة من أجل التفاوض
تلك القناعة (بأن الحرب ستكون نزهة)، تركها بوتين تنمو بين أوساط نخبته على امتداد ثماني سنوات، من بعد اجتياح شبه جزيرة القرم في العام 2014. كان يطبخها لهم مع الحصى. وكانوا يستلذون بمذاقاتها، طوال تلك السنوات، حتى أصبحت الحرب حربهم هم، قبل أن تكون حربه هو.
ما حصل، هو أن الحرب تحوّلت إلى “مفرمة لحم” للمجندين الروس، وللمرتزقة منهم معا.
حاول بريغوجين أن ينتقم من القيادة العسكرية التي تقود البلاد إلى الهزيمة. وكان من الطبيعي، وفقا لخندقي الحصانة اللذين وفرهما بوتين لنفسه، أن يخسر بريغوجين رهاناته.
شويغو لم يخرج من المعركة ضد التمرد رابحا. ولكنه لم يتعرض للتهديد، لأن رهانات الحرب الأخرى ما تزال قائمة. أوحى شويغو لصاحبه بأن الانتصار في الحرب ما يزال ممكنا. فتركه بوتين لكي يكمل ما بدأ به. فعل ذلك في الأساس، لأنه لم يكن لديهما خيار آخر أصلا.
الحرب سوف تنتهي بهزيمة روسيا. ولكن ليس لأنها ستفقد كل الأراضي التي احتلتها، بل لأن “مفرمة اللحم” ستكون مكلفة. سوف يرى عامة الروس أنهم يدفعون بأبنائهم إلى الجحيم من دون طائل.
انتفاضة الروس، وليست انتفاضة المرتزقة، هي ما يهدد خندقي الحصانة اللذين يتخندق بوتين خلفهما.
◙ أهداف الحرب هي، في حدها الأقصى، الاستيلاء على نحو 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية، وفي حدها الأدنى، المحافظة على شبه جزيرة القرم، وإيجاد سبيل لحماية الأقلية الروسية داخل أوكرانيا
عندما تندلع هذه الانتفاضة، وعلامتها تزداد يوما بعد آخر، لن يعود هناك من سبيل أمام بوتين، سوى أن يُلقي بتبعة الحرب على المتطرفين من أركان سلطته الذين شجعهم، وطبخ لهم الحصى بنفسه، قبل أن يضعهم في الواجهة.
سوف يطردهم، وفي ذات الوقت، يقدم نفسه لهم كضامن لأمنهم من الجنايات والجرائم والأخطاء التي ارتكبوها. ويخرج للعالم ليقول: تفاوضوا معي. أنا أفضل من الآخرين الذين يهددونكم بالنووي.
الحرب لن تتوقف بالضرورة في تلك الساعة، لأنها ستكون ورقة المناورة الأخيرة من أجل التفاوض.
هذا الرهان سوف يفشل، لسببين على الأقل:
الأول، لأن أوروبا والولايات المتحدة لن تعودا لتثقا به. وسوف تتمسكان بفرض تعويضات تثقل كاهل الاقتصاد الروسي. (كل الشركات الغربية التي خسرت أعمالها في روسيا، سوف تطالب بتعويضات عمّا خسرته أيضا). سوف تكون روسيا محظوظة لو أنها بقيت ضمن مجموعة العشرين ولم تحل أوكرانيا محلها.
والثاني، لأن انتفاضة الروس، بحسب خبرة التاريخ، ليست بالضرورة جولة واحدة.
في الفترة الفاصلة بين جولتين، سوف يلملم فلاديمير بوتين أغراضه ليرحل، قبل أن يقتحم عليه الجنود مقره، ويعلقوه من قدميه في الساحة الحمراء.
فإذا عاند من أجل البقاء، فإن البارجة أورورا، سوف تطلق القذيفة الأولى، كإشارة انطلاق لتلك الثورة.
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة