السؤال الذي سيطرح نفسه دائما كيف يستطيع نظام أقلوي الذهاب إلى النهاية في عملية تستهدف التخلص من شعب كامل، والاعتقاد في الوقت ذاته أن في استطاعته حكم سوريا مستقبلا؟
ليس أصعب من الكتابة عن ذكرى مرور عشر سنوات على الثورة السورية وليس أسهل من ذلك. كان هناك بلد اسمه الجمهورية العربية السورية. في غضون عشر سنوات لم يبق من سوريا التي عرفناها سوى هيكل عظمي يبحث عن صيغة جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. انهار بلد كان مرشّحا لأن يكون مثالا يحتذى به في المنطقة لولا حزب البعث وتخلّفه وعقد المنتمين إليه، وقبل ذلك أولئك الذين دفعوا في العام 1958 إلى الوحدة مع مصر من أجل بناء نظام أمني كان رمزه ضابط مجنون اسمه عبدالحميد السرّاج.
توّجت المأساة السورية بجنون آخر ليس بعده جنون عبّر عنه ضباط علويون اعتقدوا أن في استطاعتهم استخدام شعارات البعث من أجل تغطية حكم الأقلية التي ينتمون إليها لسوريا إلى ما لا نهاية.
كان طبيعيا فهم لماذا بدأت الثورة الشعبية في سوريا قبل عشر سنوات. ما يصعب فهمه يتمثّل في ما انتهت إليه سوريا التي لم يعد ممكنا التكهّن بأنّه ستقوم لها قيامة في يوم من الأيام. نعم، من الصعب فهم لماذا كلّ هذا الدمار الذي حلّ بسوريا ولماذا كلّ هذا التهجير لشعبها ولماذا صار تسعة سوريين من أصل عشرة تحت خط الفقر، كما تؤكّد المنظمات الدولية المختصة التي تحاول مساعدة السوريين على إيجاد رغيف.
ليس مستبعدا أن تكون هناك سوريا جديدة يوما، لكن السؤال الذي سيظل مطروحا يرتبط بالشكل الذي ستكون عليه سوريا الجديدة. هل تكون دولة فيدرالية من دون احتلالات أجنبية أم تظلّ في حال من التشرذم.
في النهاية، من يعتقد أن الدول لا يمكن أن تمرّ بمرحلة مخاض طويلة مخطئ كلّيا. يمكن أخذ الصومال كمثال على بلد تشظّى في العام 1991. لا يزال الصومال إلى اليوم يبحث عن نفسه. كذلك، يمكن الكلام عن اليمن الذي لم يعد معروفا هل يمكن أن يعود موحّدا مستقبلا في ظلّ صيغة ثابتة يمكن التوافق عليها بعدما سقط المركز الذي كان يدار منه البلد. هذا المركز اسمه صنعاء. لم يعد المركز موجودا منذ قرّر الإخوان المسلمون خوض حربهم على نظام علي عبدالله صالح، داخل صنعاء نفسها، في شباط – فبراير 2011. مع سقوط المركز، صار اليمن في حال من الضياع. قد يجد نفسه يوما وقد لا يجدها. في الإمكان الاستعانة بتجربة ثالثة في محاولة لاستشفاف مستقبل سوريا. هذه التجربة هي يوغوسلافيا التي بدأت تتفكك مع وفاة جوزيف بروز تيتو في العام 1980. ما كان يوغوسلافيا، صار دولا عدّة مستقلة من بينها صربيا وكرواتيا ومونتينيغرو… والبوسنة.
قرّر النظام السوري التصدي لقرار الشعب بالثورة عليه. قرّر الانتهاء من الشعب. بسبب رفض الاعتراف بأن الشعب السوري، بأكثريته الساحقة، لم يعد قادرا على تحمّل النظام، انتهت سوريا التي صارت في السنة 2021 تحت خمسة احتلالات. نجح النظام في مخططه إلى حد كبير نظرا إلى أن ما يهمّه هو البقاء في السلطة ولو على كومة رماد وحجارة وليس بقاء الشعب أو سوريا. على العكس من ذلك، إنّ تهجير السوريين من مدنهم وقراهم هدف بحدّ ذاته للنظام.
لكن السؤال الذي سيطرح نفسه دائما كيف يستطيع نظام أقلوي الذهاب إلى النهاية في عملية تستهدف التخلّص من شعب كامل والاعتقاد في الوقت ذاته أن في استطاعته حكم سوريا مستقبلا؟
عندما يتعرّف المرء على منطق النظام، لا يعود أمامه ما يثير العجب. على العكس من ذلك، يكتشف أنّ التخلّص من الشعب هو الطريق الأقصر أمامه كي يبقى بشّار الأسد في دمشق رافضا أخذ العلم بما يدور في المنطقة والعالم. من يتخذّ قرارا بتغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005، يسهل عليه كلّ شيء. يسهل عليه أخذ سوريا ومعها لبنان إلى الخراب والدمار الكاملين! من يتخذ مثل هذا القرار، غير مدرك لأبعاده، لن يرى لاحقا سببا يحول دون الاستعانة بالميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران من أجل الدفاع عن نظامه ثم بالجيش الروسي كي يؤكّد أنّه ما زال حيّا يرزق…
كان القرار الذي اتخذه النظام والقاضي بالتصدي للثورة طبيعيا يندرج في سياق سلوك لا يعرف النظام غيره. أسست تجربة حماة في شباط – فبراير 1982 لهذا السلوك. تمرّدت مدينة على النظام. جاء الردّ بمحو هذه المدينة من الوجود وتشريد عشرات الآلاف من أهلها. من شتاء العام 1982 إلى آذار – مارس 2011، عندما كتب مراهقون في درعا على الجدران “الشعب يريد تغيير النظام” وشعارات أخرى تتناول بشّار الأسد، لم يتغيّر شيء. لا وجود للغة أخرى يفهمها النظام غير لغة إلغاء الآخر. لهذا السبب وليس لغيره، يمكن القول إنّ لا أمل بإعادة تشكيل سوريا، هذا إذا كان ذلك ممكنا في ظلّ النظام القائم.
لماذا اندلعت الثورة في سوريا؟ كلّ ما في الأمر أن المواطن السوري لم يعد قادرا على تحمّل نظام يعامله معاملة لا تليق بالحيوان. رفض الجيل الجديد في سوريا ما كان يقبله الآباء، خصوصا بعد إدراك أبناء الجيل الجديد ما يدور في العالم وكيف أن النظام حوّل سوريا إلى سجن كبير في حين كان مفترضا بها أن تكون بلدا منفتحا على كلّ ما هو حضاري في العالم.
بعد عشر سنوات من الثورة التي لم تعد ثورة، إلى أين تتّجه سوريا؟ الأكيد أنّ لا مستقبل للنظام. من يعتقد أن بشّار الأسد سيبقى يحكم سوريا، إنّما يراهن على سراب. ليس الحصار الذي تتعرّض له سوريا والعقوبات التي تستمرّ دول العالم، وآخرها بريطانيا، في فرضها على شخصيات تابعة للنظام سوى دليل على أنّ إعادة تأهيل لبشّار الأسد لن تحصل غدا وأنّ على السوريين انتظار سنوات أخرى طويلة قبل معرفة هل سيبقى بلد اسمه سوريا…
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة