دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

رأي – هل تولد استراتيجية جديدة للتعامل مع الأسد

لا يمكن للنشاط الكثيف الذي تشهده الساحة السياسية السورية في الآونة الأخيرة، لاسيما بعد انسداد أفق التفاوض، إلا أن يفضي إلى تصوّرات جديدة عن حل النزاع الذي يدخل عامه الحادي عشر مخلّفا شروخا هائلة في المسألة السورية برمّتها، الدولة وهويتها والمواطنة والدور التاريخي والمستقبلي..

تكثر المشاريع السياسية الجديدة، وتتوالد الأفكار حول الهاجس ذاته؛ معارضة سورية موحّدة تواجه نظاما برهن طيلة الأعوام الماضية على قدرته على التماسك رغم الضربات التي تلقّاها، ورغم انحساره عن ثلثي الأراضي السورية، قبل أن تنجح سياساته البراغماتية في استرجاعها مستعينا بالروس والإيرانيين والميليشيات من كل حدب وصوب. ولن يجدي نفعا ترداد المعارضين القول إنه لم يستعد توازنه بمفرده، ففي الحُكم وضروراته، تكون المآلات هي المقياس لا كيفية الوصول إليها.

وقد بدا المشهد، الذي سرّبته مؤخرا منابر النظام السوري عن احتفال بعيد جلاء الفرنسيين عن سوريا الذي يصادف السابع عشر من أبريل كل عام وأقيم في قاعدة حميميم العسكرية التي يسيطر عليها الروس وبمشاركتهم، مشهدا يفصح عن الكثير. وآخر ما يمكن أن يقرأ المرء منه، الرغبة الروسية بالتعبير عن الانتصار على الغرب الذي تمثّله أوروبا وفرنسا التي غادرت سوريا قبل عقود.

أبعد من ذلك يريد الروس أن يرسّخوا ما تمكنوا من إقناع الولايات المتحدة به في جنيف، عبر البيان الشهير الذي استبدل ردّ الفعل الدولي حيال استخدام السلاح الكيميائي من قبل الأسد ضد المدنيين، بحل سياسي لا بديل عنه، ولا سبيل إليه.

ما يحتفل به الأسد حقا، نجاحُه في تحويل الانتفاضة الإصلاحية السلمية إلى “حرب أهلية”، وسيحتج المعارضون السوريون مجددا على تعبير “حرب أهلية”، بحكم ما يعنيه ذلك من استحقاقات وتبعات قانونية تختلف عما يرون أنه قد حصل في بلادهم.

الواقع الجديد الذي خلقه نظام الأسد، حين كرّس أن ما يجري في سوريا هو حرب أهلية يتجسّد أولا بتحويله للحالة السورية من ميدان جدل سياسي من أجل التغيير، إلى ساحة حرب على الإرهاب الذي كان هو شخصيا يطالب الغرب بتعريف محدّد له، لتمييزه عن المقاومة وغيرها، حرب تسببت بفوضى شاملة ومدمّرة، وبات هو طرفا فيها لا مركزا للقرار، فوضى تسلّلت إليها مشاريع متطرفة من كل حدب وصوب، وجدت في سوريا بيئة ملائمة. وبنزعه للصبغة السياسية من المشهد، أصبح الأسد قادرا على الاستمرار بحظر أي نشاط مناوئ له على الأراضي التي يسيطر عليها، فكل من يخالفه في الرأي حول حملته العسكرية هو بالضرورة يناصر الإرهاب الذي يتهدّد الدولة وأمنها. كما تمكن من استدراج القوى الداعمة له إلى رقعة حربه، وهو يدرك أكثر من الجميع أنها غير قادرة على البقاء إلى الأبد، لأن العالم تغيّر ولم يعد الغزو والاحتلال والاجتياح الخارجي قابلا للعيش وسط منظومة دولية مستقرة، على الأقل شكليا. ولا حاجة إلى التذكير بأن آخر احتلال عسكري رسمي لدولة لأخرى كان احتلاله للبنان وانسحابه منه بإجماع دولي وتحت التهديد.

أخطر ما يملكه الأسد، هو معرفته الدقيقة بكون نظامه ضرورة عضوية، سواء في الإقليم أو على المستوى الدولي. فتقديمه لسوريا كبوابة أمام كل الدول الطامحة إلى بسط نفوذها أمرٌ لا تريده دول الإقليم. وسوريا بفعل عوامل عديدة، لم يكن الأسد بعيدا عن تركيبها، استُعملتْ من قبل الأميركيين، وبجدارة، وحسب تعبير وكالة الاستخبارات المركزية كـ”مصيدة للذباب” لاستقطاب المشاريع المتشدّدة، من جهة، ومن جهة أخرى، كنقطة ارتكاز لإعادة تشكيل الخطر الأوراسي في الخارطة الدولية، روسيا والصين بالطبع، ويجري على ظهر الملف السوري استدراج تلك القوى إلى معادلات وحسابات في نقاط توتر عديدة في العالم، تبدأ بأوكرانيا ولا تنتهي في بحر الصين وحرب الغاز التي تدور في أوروبا بهدوء. أما إيران في حسابات الأسد، فهي ورقة للتفاوض أكثر منها حليفا داعما.

وسط هذا كلّه، فكّرت جهات معارضة تقيم في الداخل السوري، بإحياء مشروع قديم، تأسس في العام 1979، ولم يكتب له الاستمرار، قاده المفكر السوري الراحل جمال الأتاسي، وكان يحمل اسم “التجمّع الوطني الديمقراطي” الذي ضمّ العديد من أطياف المعارضة السورية، غالبيتها جمعها الفكر القومي العروبي.

من هنا ولدت فكرة عقد مؤتمر لتأسيس جبهة وطنية ديمقراطية، أطلقت على نفسها اختصارا اسم “جود” ترعاها هيئة التنسيق الوطنية بقيادة المعارض المخضرم حسن عبدالعظيم والعديد من التيارات والقوى السياسية السورية المتباينة الأهداف والتوجهات. اضطرت من أجل تلصيق تفاهماتها إلى أن تعلن اعترافها بحقوق قومية للأكراد وغيرهم من القوميات التي تعيش في سوريا، لتتجاوز تلك الأحزاب صلاحياتها وتقفز فوق أي دستور سوري، سابق أو مستقبلي، يعترف بالمواطنة للجميع لا بالحقوق العرقية والطائفية لأحد.

منعت أجهزة النظام “جود” من عقد مؤتمرها في دمشق، بعد الدعوة العلنية إليه وتحديد موقعه، مع أن عبدالعظيم أكّد أن الهدف من المؤتمر الدعوة إلى الحلّ السلمي، وفتح آفاق جديدة وصولا إلى الحل السياسي التفاوضي، وتنفيذ القرار 2254 كمشروع جدول أعمال لبيان جنيف، وبالتنسيق مع القوى السياسية.

واشتكى عرّاب المؤتمر من أنّ زملاءه فوجئوا بالتطويق الأمني لعناصر النظام لمحيط الفندق الذي كان سيعقد فيه، وتم منع القيادات المعارضة من الوصول إليه.

الحادثة كشفت عن حقيقة جديدة، فالمعروف أن هيئة التنسيق تعمل في دمشق برعاية روسية، وبضمانات من موسكو بعدم تعرّض الأجهزة الأمنية السورية إلى أي من أعضائها، رغم أن الأمر تم اختباره لمرات، ونتج عنه اعتقال شخصيات هامة من قيادة الهيئة مثل الطبيب عبدالعزيز الخير رئيس مكتب العلاقات الخارجية فيها الذي ألقت المخابرات السورية القبض عليه إثر عودته إلى دمشق من الخارج، وكذلك أمين سرّ الهيئة رجاء الناصر، بالإضافة إلى حوادث أخرى مشابهة.

الاختبار الجديد الذي تمثّل في منع عقد مؤتمر “جود”، رسالة من النظام السوري إلى الروس، أكثر منه رسالة إلى معارضة الداخل التي تدرك أنه لا يمكن لأي عمل سياسي أن يرى النور، مادام ضباط المخابرات السورية لا يزالون يستدعون قيادات تلك المعارضة ويناقشون معها الخطوط الحمراء التي لا يُسمح لأي نشاط بتجاوزها.

المعادلة تتغير من حول المعارضة السورية، وثباتها على مطالبها لا يشبه عناد الأسد في الإصرار على البقاء، والعالم والإقليم لن ينتظرا إلى الأبد، فالمعارضة من جانبها باتت تميل إلى الجمود وقلّة الحيلة، بينما الأسد يغلق الباب كلّ مرّة ليدلّ الجميع إلى طريق وحيدة يمكن المرور منها نحو الحل، طريق تمرّ عبره هو دون سواه، بعيدا عن أي قرارات دولية أو اتفاقات أو حديث عن محاسبة، وهو يراهن على العاملين اللذين بقيا دوما يعملان لصالحه وينقذانه من جميع المآزق التي وقع فيها سابقا، والمفقودين من جميع استراتيجيات المعارضة السورية؛ الزمن وخلق الحاجة.

 

إبراهيم الجبين – كاتب سوري – العرب اللندنية

المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة