إنّ ذريعة “التضامن” مع الفلسطينيين، هي في الحقيقة مجرد ذريعة رخيصة لتركيا وإيران، إنها فقط مصالحهما الخاصة التي تتحكم في سياساتهما وردود فعلهما، ولا شيء آخر.
تتمحور السياسة الغريبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليوم تجاه إسرائيل، في أنّه يمكن لبلاده أن تقيم علاقات معها ومع من تشاء، لكنه غير قادر على الاعتراف للآخرين بذلك، وبدور الإمارات العربية المتحدة في المنطقة.
في الحقيقة، لا تزال أنقرة تدفع ثمناً باهظاً نتيجة عدوانية أردوغان في السياسة الخارجية لتركيا. واليوم جاء الهدف الأكبر الذي تمّ تسجيله في مرمى تركيا، الوحيدة في صراعها ضد اليونان في بحر إيجة وضد فرنسا في ليبيا، جاء الهدف من “الصديق المقرب، الرئيس الأميركي دونالد ترامب”، وهو اتفاق السلام التاريخي بين دولة الإمارات وإسرائيل برعاية أميركية.
وأمام ذلك الاتفاق، بدا أردوغان غير مدرك لمثل هذه التطورات، فجاءت ردّة فعله بطريقة لا معنى لها وغير لائقة تجاه ما حصل من مستجدات فاجأته وهو غير مستعد لها، بقوله “يمكن أن نتخذ خطوات لتعليق العلاقات الدبلوماسية مع أبوظبي أو سحب سفيرنا” ومُضيفاً “لم ولن نترك فلسطين لقمة سائغة لأحد أبدا”.
وبالعودة إلى حديث مسؤول في وزارة الخارجية التركية، يخبرنا عن طبيعة علاقات بلاده مع إسرائيل:
“تقوم العلاقات الثنائية بين تركيا وإسرائيل على أساس المنافع والمصالح المشتركة. ومع ذلك، فإن سياسات إسرائيل التي تؤثر سلبًا على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط تسببت في بعض الأحيان بمشاكل في العلاقات”.
وتمّ الاعتراف المتبادل بين البلدين في 28 مارس 1949، وبدأت العلاقات الرسمية بعد أول تمثيل دبلوماسي لتركيا في إسرائيل عام 1950، والذي تم الإعلان عنه في 7 يناير حينها.
واتخذت تركيا مبادرات من أجل العيش بسلام مع إسرائيل، لكن قافلة المساعدات الإنسانية غير الحكومية إلى غزة من قبل منظمات تركية ودولية والاعتداء عليها من قبل جنود إسرائيليين في 31 مايو 2010، والتي أدت إلى مقتل بعض المشاركين ومن بينهم أتراك، كان لها تأثير سلبي على العلاقات الثنائية، حيث تمّ استدعاء سفير تركيا في تل أبيب بعد الهجوم.
لاحقا، وفي إطار القوانين والأعراف الدولية لتطبيع العلاقات بين البلدين، اعتذرت الحكومة الإسرائيلية ودفعت تعويضات لأسر الضحايا، مع المطالبة التركية بإزالة القيود المفروضة على غزة.
ونتيجة للخطوات التي اتخذتها إسرائيل للوفاء بهذه الشروط تدريجيًا، تم التوصل إلى اتفاق في 26 يونيو 2016 للعودة إلى العلاقات الثنائية الطبيعية. وفي هذا السياق، تم التوقيع على “اتفاقية إجراءات التعويض” بين الطرفين في 28 يونيو 2016.
والمُلفت أيضاً، وعلى الرغم من كل الأزمات التي مرّت بها علاقات أنقرة بتل أبيب، فقد حافظت العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل، على قوتها. وفيما يعترف أردوغان بإسرائيل كدولة، ها هو الآن غاضب لما تفعله الإمارات العربية المتحدة بعد 70 عامًا من قيام بلاده بذلك.
لماذا؟ هل من أجل حماية شعب فلسطين ؟
كل من يتابع السياسة في العالم يعرف أن هذا هراء. إذ تعتبر تركيا الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي المفاجئ بمثابة مزيد من العزلة لها في المنطقة، إنها تخسر نفوذها في المنطقة تدريجياً، وفي الحقيقة فإن الجميع سوف يخسرون أيضاً جزءاً من السوق في المنطقة.
هذا مؤلم جدا وغير عادل للفلسطينيين. لكن ما حدث يعكس اتجاهاً لا رجوع فيه. فالخطر الآن في العديد من الدول العربية ليس من إسرائيل، إذ تتسبب كل من إيران وتركيا في المزيد من التوتر والقلق في المنطقة. وتحجيم هذين الخطرين هو الأولوية القصوى لتلك الدول. أما إسرائيل، التي تتمتع بقدرات عسكرية وتكنولوجية فائقة، فإنها اليوم بمثابة شريك طبيعي وجذاب لهذه الدول ضدّ الخطر الإيراني بشكل خاص. كما أن إسرائيل تعتبر بحق إيران وحلفائها في سوريا ولبنان والعراق واليمن وقطاع غزة أكبر تهديد لأمنها.
كان من المتوقع أن ترفض كل من طهران وأنقرة الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي بشدّة. لكن من ناحية أخرى، فإن هذه الاتفاقية كان المفترض نظرياً أن يتم تأييدها، حيث تصف كل من تركيا وإيران نفسها بأنها حليف لا يقهر للفلسطينيين في العالم الإسلامي، وبالتالي فالاتفاقية تتيح الفرصة لتعزيز مطالبهما بالقوة والقيادة.
لكن في الواقع، فإنّ ذريعة “التضامن” مع الفلسطينيين، هي في الحقيقة مجرد ذريعة رخيصة لتركيا وإيران، إنها فقط مصالحهما الخاصة التي تتحكم في سياساتهما وردود فعلهما، ولا شيء آخر.
في رؤيته للاتفاق المذكور باعتباره زلزالًا جيوسياسيًا في الشرق الأوسط، قال كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، توماس فريدمان، إنه يعتبر كلا من قطر وتركيا في قائمة الخاسرين من هذه الاتفاقية. ويقول مع افتراض تزايد الوجود العسكري في المنطقة، فإن كل من تركيا وإيران، وإضافة للعلاقات السيئة بينهما، هما الخاسر الأكبر في الاتفاق التاريخي.
ومن خلال هذه الاتفاقية، يرى فريدمان أن الإمارات وجهت رسالة واضحة، إذ يوجد الآن ائتلافان في المنطقة، أولئك الذين يدفنون الماضي ويتطلعون إلى المستقبل، وأولئك الذين يسمحون لماضيهم بدفن مستقبلهم.
وبينما تتصدر الإمارات العربية المتحدة الائتلاف الأول، فإنها تترك قيادة الثاني لإيران.
وكما صرّح فريدمان، فإنّ مهندس هذه الاتفاقية، هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولذلك فإذا اتخذ أردوغان موقفًا مخالفًا تمامًا لهذه الاتفاقية وإجراءات ضدّها، فإنه يخاطر بفقدان صديقه الوحيد ترامب وواشنطن، وبالتالي فإنّ عليه أن يتخذ خطواته بحذر شديد. وهناك أيضًا خطر خسارة الإمارات العربية المتحدة كسوق بالكامل، وذلك بصفة أردوغان رئيساً لدولة أفلس اقتصادها وقارب على الانهيار.
ويُحاول فريدمان الحديث بودّ ونصيحة تجاه موقف تركيا من الاتفاق، لكنّ التحالف الإسلامي القومي السياسي الذي يرأسه حزب أردوغان، العدالة والتنمية، قد جعل البلاد تشعر بأكملها بعزلة دولية كبيرة، وخطر إقصائها من منطقة البحر المتوسط إلى منطقة الخليج العربي.
لقد أدرك أردوغان أنه كان يخسر الكثير. هذا هو في الواقع سبب غضبه ويأسه.
إرغون باباهان – رئيس تحرير في موقع أحوال تركية – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة