دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

رأي – من قال إن جسور التواصل لن تمتد بين بنغازي ودمشق

سلطات بنغازي يمكن أن تتواصل مع السلطات السورية الجديدة لكن ذلك مرتبط بطبيعة العلاقات التي يمكن أن تتشكل بين القاهرة ودمشق.

الزفة في دمشق والفرح في طرابلس
سارعت حكومة الوحدة في طرابلس إلى التواصل مع القيادة الجديدة في دمشق وعينها على شرق ليبيا، وكأنها تقول للجنرال خليفة حفتر وفريقه “انتصر ثوار سوريا ممن نلتقي معهم في العقيدة والتحالفات في الإطاحة بنظام بشار الأسد الذي كنتم تعتبرونه حليفا لكم ومن ورائها هزيمة راعيكم الروسي.”

بالنسبة إلى فريق عبدالحميد الدبيبة، فإن وصول أحمد الشرع إلى القصر الجمهوري في دمشق، هو أولا انتصار لتركيا التي تفرض تأثيرا استثنائيا على غرب ليبيا، ومن داخلها تُدار حكومة الظل في طرابلس، وبالتالي فهو انتصار لتحالف السلطتين المالية والدينية المتمثلتين في “العليين” الدبيبة والصلابي، وانتصار لخطاب التشدد المساهم بدور كبير في تكريس حالة الانقسام والذي آلت زعامته العملية إلى الشيخ الصادق الغرياني، بالمقابل هو انكسار لسلطات بنغازي وحلفائها الإقليميين والدوليين.

الإعلان في الثامن من ديسمبر الماضي عن انتصار المعارضة المسلحة في سوريا أثار حالة من البهجة والاستبشار في مكاتب رئاسة الحكومة في طرابلس، ورأى فيه الدبيبة وحلفاؤه فرصة مهمة لاستعادة المبادرة بزعم الدفاع عن قيم الثورة وشعارات الربيع العربي في مواجهة سلطات الشرق التي يُنظر إليها على أنها تمثل الثورة المضادة. كما اعتبروا أن ذلك الحدث الكبير أطاح برهانات الجنرال حفتر وحلفائه الروس، وفتح الطريق أمام تحالف يمكن أن يكون قويا ومصيريا بين طرابلس ودمشق بديلا عن التحالف السابق بين نظامي الأسد والقذافي والذي وصل إلى حد التوقيع على اتفاق الوحدة الاندماجية بينهما في العام 1980، بعد الاتفاق الأول الذي جمعهما في كيان اتحادي مع مصر في العام 1971 ووصل إلى حد تنظيم استفتاء شعبي حوله.

في مارس 2020 بادرت الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب بإعادة فتح سفارة ليبيا في دمشق كردّ فعل مباشر على وصول الآلاف من المرتزقة من شمال ليبيا لدعم ميليشيات طرابلس، ومن أجل التنسيق الأمني بين الطرفين وخاصة في مجال مكافحة الإرهاب ومخططات تيار الإسلام السياسي. فأحمد الشرع الذي يقود الإدارة الجديدة في سوريا هو ذاته أو أحمد الجولاني الذي كان زعيما لجبهة النصرة قبل تغيير اسمها إلى هيئة تحرير الشام، والمقاتلون في صفوف قواته كانوا حلفاء موضوعيين لميليشيات الإسلام السياسي في ليبيا التي حاربتها قوات الجنرال خليفة حفتر بقوة منذ إطلاقه عملية الكرامة في ربيع 2014.

◙ جسور التواصل بين بنغازي ودمشق قد يأتي اليوم الذي تمتد فيه بين طرفين يتمتعان ببراغماتية واضحة

مع إطاحة النظام في دمشق، ارتفعت الأصوات في طرابلس داعية إلى شن حرب على مناطق نفوذ الجيش، حاول البعض المقارنة بين بشار وحفتر واعتبارهما رمزين للدكتاتورية ومعاداة الدين. كما راجت تقارير إعلامية غربية عن انتقال عسكريين روس إلى بنغازي، وعن خطة لترحيل القوات والأسلحة الروسية من الساحل السوري إلى شرق ليبيا، وهو ما استغلته سلطات طرابلس في التشنيع بسلطات بنغازي، وخرج الدبيبة خلال مؤتمر صحفي ليقول بوضوح “لا يمكن أن نرضى أن تكون ليبيا ساحة تتقاطع فيها مصالح الدول الكبيرة والصغيرة،” و”لا أحد لديه ذرة من الوطنية يقبل بتدخل قوة أجنبية لفرض هيمنتها وسلطتها على البلد والشعب الليبي،” وحتى لا يخرج من يقول له: وماذا عن القوات التركية؟ أكد الدبيبة رفضه لأيّ تدخل أجنبي دون اتفاق رسمي، وقال إن التدخلات المقبولة تقتصر على الاتفاقيات المتعلقة بالتدريب أو التعليم أو التسليح، أما التدخل العسكري بالقوة فهو أمر مرفوض تماما.

تم اعتبار ما حدث في سوريا مصدر قوة يمكن أن ترتكز عليه سلطات طرابلس الباحثة عن مبررات مستحدثة للتمسك بالسلطة، وذهب وفد بقيادة وليد اللافي وزير الدولة للاتصال والشؤون الخارجية الذي يمثل واجهة التحالف بين علي الدبيبة وعلي الصلابي، لنقل رسالة إلى أحمد الشرع مفادها أن كل إمكانيات طرابلس موضوعة على ذمة الإدارة الجديدة وأن السفارة ستفتح بطاقم جديد يمثل حكومة الدبيبة وليس حكومة البرلمان كما كان في السابق، وأن بين السلطتين قيم الثورة والحرية والعقيدة والأخ الكبير في تركيا.

رغم ذلك، فإن جسور التواصل بين بنغازي ودمشق قد يأتي اليوم الذي تمتد فيه بين طرفين يتمتعان ببراغماتية واضحة في مباشرة العمل السياسي والدبلوماسي. علينا مثلا أن نتذكر أن هناك تطبيعا تحقق بين بنغازي وأنقرة خلال الفترة الماضية، وتم تتويجه بتبادل الزيارات بين مسؤولي الحكومة التركية وعدد من قيادات شرق ليبيا من بينهم رئيس مجلس النواب عقيلة صالح وأبناء الجنرال خليفة حفتر. وهو ما يعني أن كل المواقف المتشددة سابقا نحو تركيا “الإخوانية الأردوغانية” زالت من قاموس سلطات شرق ليبيا. ووجود قوات تركية ومرتزقة يدورون في فلكها بالمنطقة الغربية أصبح من باب “رب ضارة نافعة” حيث يعتمد عليه الجنرال حفتر في تبرير علاقاته الوطيدة مع الروس ووجود عناصر الفيلق الأفريقي في مناطق نفوذه. وكلما جاءه الغربيون الأميركيون والأوروبيون ضاغطين من أجل إخراج المسلحين الروس من ليبيا كان رده واضحا “فليخرج الأتراك ومرتزقتهم من طرابلس أولا.”

◙ ما حدث في سوريا مصدر قوة يمكن أن ترتكز عليه سلطات طرابلس الباحثة عن مبررات مستحدثة للتمسك بالسلطة

لم يعد هناك من يتذكر “طوفان الكرامة” المندفع من شرق ليبيا وحربه مع “بركان الغضب” المدعوم بقوة من قبل الأتراك لاسيما بعد الاتفاق الأمني والعسكري الموقع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس المجلس الرئاسي الليبي السابق فائز السراج في أواخر نوفمبر 2019، والذي حسم المعركة لفائدة تجمع ميليشيات المنطقة الغربية بعد وصول خبراء عسكريين من تركيا ومعهم مسيراتهم “بيرقدار” والآلاف من المرتزقة المجلوبين في طائرات الشحن من شمال سوريا.

مثّلت تلك المواجهات الدموية انعكاسا عمليا لحرب باردة كانت تدور رحاها بين القاهرة ومعها منظومة الاعتدال العربي من جهة، وأنقرة المستندة إلى مشروع الإسلام السياسي والمتحالفة بقوة مع الدوحة والضامنة لتبعية الجزائر من جهة أخرى. كما كانت ترجمة واقعية لصراع النفوذ الذي بدأ في التشكل بوضوح بين موسكو والعواصم الغربية، والذي تبلور لاحقا في منطقة الساحل والصحراء باتساع حضور الروس وطرد الفرنسيين وسحب البساط من تحت أقدام الأميركيين، فيما باتت أنقرة تستظل بظل موسكو لتتقاسم معها المصالح في دول مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى. وأصبح المرتزقة الذين حاربوا ضد حلفاء الروس في ليبيا مناصرين للمشروع الروسي في دول الساحل. كذلك أضحى من العادي أن يجتمع صدام حفتر قائد القوات البرية في الجيش الليبي مع وزير الدفاع التركي في إسطنبول ويتبادل معه ابتسامات الود وعبارات المجاملة.

انطلاقا من هذه التحولات المهمة التي تؤكد أن المصالح هي التي تنتصر دائما بفرض شروطها على أصحاب القرار مهما كانت مواقفهم مختلفة أو متناقضة، فإن سلطات بنغازي يمكن في أي وقت، أن تتواصل مع السلطات السورية الجديدة، لكن ذلك مرتبط بطبيعة العلاقات التي يمكن أن تتشكل بين القاهرة ودمشق، وأن تتطور بين عواصم مثل أبوظبي وعمّان والرياض والرباط مع النظام الناشئ في سوريا. كما أن العلاقة المرتقب حسم اتجاهاتها بين دمشق وموسكو سيكون لها أثرها على صلات التواصل بين الحكام السوريين الجدد وسلطات بنغازي.

الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة