الولايات المتحدة تبحث عمن يحارب بالوكالة عنها، ويخدم مصالحها، وإسرائيل تعرف أن لا مشكلة لها مع الأتراك، وإنما مع العرب، لذلك لا ترى مانعا من توسع تركيا، سواء في سوريا أو ليبيا أو اليمن أو غيرها.
لا يمكن اعتبار زيارة وزير الدفاع التركي، ومعه رئيس أركان الجيش التركي، لطرابلس حدثا عاديا، فالأمر يتعلق بإعلان الوصاية على غرب البلاد، وإدخاله مرحلة الاحتلال المباشر، من قبل دولة يسعى نظامها منذ سنوات إلى تنفيذ مشروع توسعي قومي طوراني في المنطقة العربية، تحت غطاء إخواني عقائدي وتاريخي عثماني، ولأهداف سياسية واقتصادية واستراتيجية معلنة. خلوصي أكار قال إن بلاده باقية إلى الأبد في ليبيا، التي سبق للأتراك أن احتلوها لمدة 450 عاما.
هذا يعني أن إمبريالية جديدة تتشكل في المنطقة، الأتراك يحاولون التوسع على حساب العراق وسوريا، ويحتلون غرب ليبيا، ويتموقعون عسكريا في قطر والقرن الأفريقي، ويطمحون إلى دور في بحر العرب وباب المندب وخليج عدن، ويعملون على خنق العرب داخل مجالهم الحيوي.
كل ذلك يتم وفق مخطط استراتيجي استطاع أردوغان أن يخترق به الصف العربي، منذ تبنته أغلب الأنظمة، بعد وصول حزبه إلى الحكم عام 2000، وقدمت له الدعم بسيل الاستثمارات والعقود التجارية الضخمة، والتدفق السياحي، والترويج الثقافي والإعلامي لتركيا الجديدة، قبل أن تكتشف لاحقا أنه يستهدفها بمشروعه الإمبراطوري الجديد.
ليبيا في العهد السابق كانت من أول ضحايا التقدير الخاطئ لمشروع أردوغان، حيث جعلت منه أهم شريك استثماري، ومنحته صفقات كبرى مبرمجة في إطار مشروع ليبيا الغد، أكثر من 30 مليار دولار، وفرضه الرئيس الراحل معمر القذافي ضيف شرف على القمة العربية 2010 بسرت، ومنحه جائزته التقديرية، مبهورا بموقفه التمثيلي، عندما انسحب من حوار مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في منتدى دافوس 29 يناير 2010.
اليوم، بعد عشر سنوات، أصبحت تركيا تتحكم في مفاصل حكومة فايز السراج، الفاقدة للشرعية والمنبوذة من أغلب أبناء شعبها، وتحول نظام أردوغان إلى صاحب القرار الأول في المؤسسات السيادية الليبية، ومنها المصرف المركزي ومؤسسة النفط، وإلى القائد الفعلي للميليشيات والجماعات المسلحة في غرب ليبيا، من خلال غرفة عمليات، زارها وزير الدفاع التركي والوفد المرافق له، باعتبارها جزءا من سيادة بلاده في مناطق ما وراء البحار.
نتائج الزيارة أكدت ما تم الاتفاق عليه سابقا، من سيطرة تركية على قاعدة “الوطية” المتاخمة للحدود مع تونس، وإنشاء قاعدة ثانية في مصراتة لتدريب الميليشيات والمرتزقة، وإعفاء عسكريي تركيا ومرتزقتها من أي ملاحقة قانونية عن الجرائم التي قد تنسب لهم، وتمكين الضباط الأتراك من حصانة تعادل الحصانة الدبلوماسية، وإدارة تركيا للأجهزة الأمنية والمخابراتية، إضافة إلى التدخل في سير عمل المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وشركة الاستثمارات وغيرها.
الاحتلال التركي لغرب ليبيا لم يأت من خارج سياقات صراع الأمم، وإنما من داخله، وبموافقة من الناتو ودعم من واشنطن، بعد أن وعد أردوغان الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإنشاء إدارة مشتركة للشأن الليبي، خاصة في ما يتعلق بالمقدرات والثروات، على أن يتم تبرير الاحتلال دوليا بالعمل على قطع يد روسيا من الأراضي الليبية.
سعت واشنطن إلى ترك الباب مواربا ليدخل أردوغان إلى ليبيا فاتحا سواء من خلال تعطيل اجتماعات مجلس الأمن أو من خلال تأجيل تعيين بديل عن المبعوث الأممي غسان سلامة
تم خلال الأشهر الماضية اللعب على ورقة التدخل الروسي بالكثير من التضخيم والإشاعات والفبركة الإعلامية، التي تعتبر أهم أدوات الجيل الخامس من الحروب، واستطاع أردوغان إقناع الطرف الأميركي بأن أفضل من يقاتل الروس في ليبيا هم المكتوون بنارهم في سوريا، ليحصل على ضوء أخضر بنقل آلاف المرتزقة من إدلب وريف حلب إلى طرابلس ومصراتة أمام أعين العالم.
نحن نعيش زمنا لا يحتاج فيه المغامرون إلى إخفاء جرائمهم، وإنما يباهون بها بعنجهية القوة والتمرد على القانون الدولي. لم تكن تصريحات الأفريكوم والإدارة الأميركية عن وجود آلاف المقاتلين الروس وعشرات الطائرات الروسية، إلا ضوءا أخضر للأتراك للسيطرة على الغرب الليبي، والتمهيد للهجوم على الهلال النفطي.
علينا أن نذكر هنا أن الجيش الوطني كان لحوالي 14 مايو يحاصر طرابلس ويتردد في اقتحامها بسبب الضغوط الأميركية والأوروبية المباشرة، فالصراع كان يدور تحت الطاولة، ليس من باب الخوف على دماء الليبيين، ولكن لتقاسم الغنيمة، وتحديد هوية الطرف الذي يمكن التفاهم معه؛ الجيش الذي يمثل السيادة، أم الميليشيات المرتبطة بجماعة الإخوان، وبرجال الأعمال المرتبطين بشركات خارجية، وأمراء حرب لا يهمهم سوى المال وتجنب الملاحقة القانونية.
كما حدث للعراق عام 2003، تعرضت ليبيا عام 2011 إلى واحدة من أكبر عمليات السطو المسلح، وتم تحييد إرادة شعبها عن قصد، وجيء بإرهابيين للحكم، منهم من ينتمي علنا إلى تنظيم القاعدة، وعندما خسر الإسلاميون نتائج انتخابات 2014، انقلبوا عليها من خلال منظومة “فجر ليبيا” برعاية ليست فقط قطرية وتركية كما يعتقد البعض، وإنما شاركت فيها قوى غربية وشركات متعددة الجنسيات ولوبيات نافذة، وكان الهدف منها إعادة تدوير الإسلام السياسي، وهو ما حدث في اتفاق الصخيرات.
وجيء بحكومة يرأسها رجل غير معروف، إلا لدى من رشحوه للمهمة في غفلة من الليبيين، وتم تكريسها أمرا واقعا، رغم عدم حصولها على تزكية البرلمان، ورغم انتهاء مدة ولايتها، وفشلها في تحقيق المطلوب منها، فالموضوع هنا يتعلق بما هو أهم؛ النفط والغاز والأموال المجمدة والأطماع الإقليمية والدولية، واستعداد الإخوان للتفريط في ذلك مقابل الاستمرار في الحكم، وهو ما لا يقبل به الجيش الذي تأسس على عقيدة وطنية كأي جيش حقيقي في بلد ذي سيادة.
سعت واشنطن إلى ترك الباب مواربا، ليدخل أردوغان إلى ليبيا فاتحا، سواء من خلال تعطيل اجتماعات مجلس الأمن، أو من خلال تأجيل تعيين بديل عن المبعوث الأممي غسان سلامة، منذ استقالته في 2 مارس، وكذلك من التغطية على مده يوميا بشحنات السلاح والمرتزقة.
بعض الجهات التركية تتحدث عن تفاهمات سرية بين أردوغان وترامب، وعن تعاون قوى أوروبية مع المشروع التركي، هذا ما يفسر مثلا الاضطراب في موعد انطلاق عملية “أريني” وجديتها في الإشراف على تطبيق قرارات مجلس الأمن بحظر توريد السلاح إلى ليبيا. الإيطاليون كانوا جزءا من التوافقات، وكذلك ألمانيا التي يبقى همها الأبرز دعم الإسلام السياسي وعدم إزعاج أردوغان. فرنسا وحدها وجدت نفسها في التسلل.
يبدي النظام التركي تبعية ذليلة لواشنطن وإسرائيل من تحت الطاولة، واستعدادا لخدمة أي مشروع لهما على حساب العرب، ويعتمد في تنفيذ خطته على انتمائه إلى الناتو، وسيطرته على الإسلام السياسي في المنطقة، ويستفيد من قدرة الولايات المتحدة على الضغط على الدول العربية، لذلك تم السماح له بالتدخل المباشر في ليبيا.
الولايات المتحدة تبحث عمن يحارب بالوكالة عنها، ويخدم مصالحها، وإسرائيل تعرف أن لا مشكلة لها مع الأتراك، وإنما مع العرب، لذلك لا ترى مانعا من توسع تركيا، سواء في سوريا أو ليبيا أو اليمن أو غيرها.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة