انسحبت ميليشيات النظام من مدينة مورك شمال حماة، بأوامر روسية، وتستعد للانسحاب من خان شيخون الواقعة على الطريق الدولي دمشق- حلب، لتحل محلها دوريات مشتركة روسية-تركية، من أجل العودة إلى تطبيق اتفاق سوتشي في ما يتعلق بفتح الطرق الدولية؛ وهذا يُظهر حجم التقارب الروسي-التركي بعد زيارة أردوغان إلى موسكو، الأسبوع الماضي.
فرضت روسيا على شريكها التركي شروطها وتفسيرها لاتفاق سوتشي للمنطقة العازلة (في سبتمبر 2018) بالقوة النارية، بعد استعادة النظام بدعم روسي لأهم المدن الاستراتيجية الواقعة على الطريق الدولي، وبما قدّمته من عروض الطائرات المقاتلة الروسية “سوخوي”، بعد إتمام صفقة الـ”أس-400″، والبدء بتنفيذها؛ لكن لا يوجد وضوح كامل حول التنسيق الجديد بين الطرفين، لذلك لا تزال الضغوط الروسية مستمرة، عبر استمرار القصف الجوي على طرفي الطريق الدولي أم-5، ويشمل سراقب ومعرة النعمان، والقصف البري على محور الكبانة شمالي اللاذقية، على الطريق الدولي “أم-4”.
تراجع الدعم السياسي الغربي، الأميركي والأوروبي، للموقف التركي في ملف إدلب، نتيجة الصمت الأميركي بعد ما حصل من تقارب مع روسيا بوساطة إسرائيلية في اجتماع القدس الأمني الثلاثي. لكن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ما زال يهدد الغرب بفتح الحدود أمام مليون لاجئ، إذا لم يقم الأوروبيون بتقديم الدعم المادي، والدعم السياسي في ملف المنطقة الأمنية شرق الفرات، حيث يقول أردوغان إن تركيا تقوم بإيواء مليون لاجئ سوري.
لا تلتقي الأجندات الروسية والتركية حول ملف شرق الفرات، لكن المصالح تلتقي من حيث تشكيل الضغوط على واشنطن، لغايات مختلفة؛ فتركيا تريد فرض شروطها على الولايات المتحدة شرق الفرات، في ما يتعلق بعمق المنطقة، وبدور لها في مراقبتها، وأن تكون منطقة نفوذ تابعة لها على غرار منطقتي غصن الزيتون ودرع الفرات.
بينما موسكو تتطلع إلى الاستفادة من ثروات شرق الفرات، ولا تستطيع مواجهة واشنطن عسكريا، وقد جربت ذلك، وعوقبت بقتل جنودها في دير الزور، في سبتمبر 2017، عندما اجتازوا النهر شرقا، وربما تفضل دورا أكبر لأنقرة، التي يسهل التعامل معها بوجود ملفات عالقة بين الطرفين في سوريا، ومع مغريات صفقات التسليح التي تقدمها لتركيا.
تكتفي موسكو في المرحلة الحالية بفتح الطرق الدولية وحماية قواعدها وانتشارها العسكري في الساحل السوري، وتريد إكمال السيطرة على كامل إدلب وريف حلب الغربي، لكنها تؤجله مع وجود تعقيدات إنهاء ملف الجهاديين، خاصة الأجانب منهم، وإخضاع الفصائل لشروط التسوية الروسية-التركية، عبر المشاركة في اجتماعات أستانة، وتريد من أنقرة أن تشارك في حسم ملف هيئة تحرير الشام وبقية الفصائل الجهادية، عبر الاستعانة بفصائل تابعة لها، من الجيش الوطني والجبهة الوطنية.
ويشكل ملف الجهادية في إدلب عقدة صعبة، ويبدو أن هيئة تحرير الشام هي المستهدفة كخطوة أولى لحسم هذا الملف؛ وتركيا لم تعد راغبة ببقائها في إدلب، وقد استثمرت في سيطرتها على المحافظة، لتأخير تنفيذ اتفاق سوتشي للمنطقة العازلة، وفتح الطرق الدولية للروس والنظام، دون أن تتمكن من تحقيق الكثير من المكاسب نتيجة هذا التأخير.
بكل الأحوال، لا تستطيع تركيا وحدها تولي حسم ملف الهيئة، خاصة مع عدم وجود اتفاق واضح روسي-تركي، يضمن عدم توغل النظام أثناء قتال الفصائل المعتدلة للهيئة.
قد يتولى الروس والنظام مهمة إنهاء ملف تحرير الشام، لكن كلفة ذلك ستكون عالية، مع احتماء عناصر الهيئة بالمدنيين، ما سيتسبب بموجة نزوح كبيرة باتجاه الحدود التركية؛ لذلك سيفضل الأتراك التنسيق مع الروس في هذه المهمة.
تتعرض هيئة تحرير الشام لضغوط كبيرة، محلية وإقليمية ودولية، إضافة إلى تصدع في بنيتها الداخلية، ما تسبب في ظهور جناحين داخلها، الأول يريد أن تحل نفسها وتخضع للضغوط، والثاني يتشدد في المقاومة، ويرفض حل الهيئة إلا في إطار اندماج مع الفصائل الأخرى يبقيها هي المسيطرة.
انتهت مهمة هيئة تحرير الشام بالنسبة لروسيا أيضا، بوصفها ذريعة للهجوم على إدلب، وهي لا تزال مصنّفة على قوائم الإرهاب لدى مؤسسات المجتمع الدولي، فيما تتصاعد المظاهرات المحلية ضدّ زعيمها أبومحمد الجولاني، خاصة في سراقب وبنش وأريحا ومعرة النعمان، بعد ضعف مشاركتها في المعارك الأخيرة، واحتفاظها بالسلاح الثقيل، وفي 2017 كانت قد سلمت مناطق شرق السكة للنظام، وهو ما أضعف ولاء المقاتلين المنتمين إليها من أهالي المنطقة.
وتعاني الهيئة من ضعف الأيديولوجيا الجهادية القاعدية التي قامت عليها، وقد تحولت، عبر حكومة الإنقاذ التابعة لها، إلى جهة متطفلة على المدنيين تفرض الإتاوات، وتشتري الولاءات، ولم تقدم مساعدات للنازحين الجدد، ما تسبب بنقمة شعبية ضدها.
رغم تشدد قيادات الهيئة في رفضها مسألة حل نفسها لصالح فصائل معتدلة، لكن العوامل السابقة تنبئ باقتراب تفككها، وانضمام عناصرها، خاصة المحليين منهم، إلى فصائل إسلامية معتدلة، في حين أن المتشددين، ومنهم أجانب من خارج سوريا، قد ينضمون إلى الفصائل المرتبطة بتنظيم القاعدة، كحراس الدين، والحزب الإسلامي التركستاني.
ملف الجهاديين الأجانب هو الأعقد، خاصة أنهم يتمركزون في الجبال، وأعدادهم غير قليلة؛ قد يشارك التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في إنهائهم بالقصف الجوي، كما فعلت الولايات المتحدة منذ أسبوع بقصفها مقر قيادات تنظيم حراس الدين.
ملف إدلب في طريقه إلى الحسم، وإن كان الأمر يسير ببطء، وعلى حساب استمرار سفك الدماء السورية. وهنا تلتقي موسكو وأنقرة في الرغبة بحسم الملف والتفرغ إلى ملفات أخرى؛ فتركيا تريد التفرغ لحسم ملف المنطقة الأمنية لمصلحتها، فيما تريد روسيا التقدم في ملف التسوية، والبدء بإعادة الإعمار، وإعادة اللاجئين، وعينها على ثروات شرق الفرات.
رانيا مصطفى – كاتبة سورية – صحيفة العرب
المقالة تعبر رأي الكاتبة والصحيفة