تقرر إنشاء مركز عمليات مشترك أميركي- تركي في ولاية شانلي أورفة التركية على الحدود مع سوريا، يبدأ عمله مطلع الشهر المقبل، بعد زيارة وفد عسكري أميركي إلى المنطقة مؤلف من 6 ضباط، في خطوة أميركية جديدة لفتح ما يشبه مسار تفاوض جديد على تفاصيل المنطقة الآمنة شرق الفرات وشمالي سوريا، لتهدئة المخاوف التركية من خطر نشاط وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة تابعة لحزب العمال الكردستاني المصنف لديها إرهابياً.
وسيتم إنشاء 10 نقاط مراقبة تركية في مناطق ذات غالبية عربية، على أن يتم الاتفاق على زيادتها مستقبلا.
لطالما اختلف الطرفان التركي والأميركي حول تفاصيل هذه المنطقة وعمقها، لكن هناك اتفاقا اليوم على تسميتها بـ”الممر الآمن” الخالي من السلاح الثقيل، وصالح لعودة اللاجئين من أهالي المنطقة وغيرهم، بعد أن كانت تركيا تطلق عليها اسم “المنطقة الأمنية”، أي أن تشرف عليها بنفسها على غرار منطقتي غصن الزيتون ودرع الفرات، لضمان عدم قيام كيان كردي على حدودها تقوده وحدات حماية الشعب.
لا اتفاق حول هذا الممر الآمن حتى الآن؛ تتمسك أنقرة بمطلب أن تكون المنطقة على كامل الحدود السورية وبعمق 20 ميلا (32 كيلومترا)، وأن تكون خالية من الوحدات الكردية، وأن تكون طرفا أساسيا في الإشراف عليها. تنازلت واشنطن وقبلت أن تكون المنطقة على كامل الحدود، وطرحت على أنقرة أن تكون بعرض 18 كيلومترا خالية من السلاح الثقيل، وعلى ثلاثة مسارات؛ المنطقة الأولى بعرض 5 كيلومترات وخالية من الوحدات وتسير فيها دوريات مشتركة تركية- أميركية، ويحكمها مجلس محلي، ويمنع على القوات التركية دخول المناطق ذات الغالبية الكردية، والثانية بعرض 9 كيلومترات، تحت السيطرة الأميركية وخالية من السلاح الثقيل، ثم 4 كيلومترات أخرى منزوعة السلاح، فيما ستكون نقاط المراقبة التركية مراكز مجهزة لعودة اللاجئين.
من المرجح أنّ هناك ميولا أميركية جدية لترتيب وضع منطقة شرق الفرات، وتحقيق الاستقرار، وربما فرضها على الحل السياسي كمنطقة ذات استقلال سياسي واقتصادي، دون انفصالها، وأن تبدأ فيها عملية إعادة الإعمار بشكل مستقل عن كامل سوريا، ما يقطع على الروس فرصة الاستفادة من ثرواتها (90 بالمئة من النفط السوري، ونصف الغاز).
وتظهر تصريحات القيادات الكردية في مجلس سوريا الديمقراطي بعض الارتياح مع الكثير من الحذر، خاصة أن التوصل إلى اتفاق سيجنب المنطقة مواجهة مفتوحة على احتمالات خطيرة، ودون أن تتخلى الولايات المتحدة عنهم، حيث ما زالت ترسل لهم الدعم لمنع عودة تنظيم داعش. ويبدو أن رسالة عبدالله أوجلان في شهر مايو الماضي من سجنه إلى قوات سوريا الديمقراطية في شهر مايو الماضي، افتتحت مفاوضات غير مباشرة مع الأتراك بشأن ترتيبات شرق الفرات.
في الأثناء ما زالت التصريحات التركية تميل إلى التهديد والتصعيد بعملية أحادية شرق الفرات، عبر الفصائل السورية المحتشدة على الحدود يدعمها الجيش التركي، للضغط على واشنطن بعدم المماطلة في ما يتعلق بسلاح الوحدات الكردية، كما تفعل في منبج.
الاتفاق على ترتيب الوضع شرقي الفرات إذا ما تم، سيقطع على النظام السوري ومن خلفه الروس فرصة العودة إلى شرق الفرات، وهو ما استفز الروس الذين صعّدوا من الحملة العسكرية والقصف الجوي، واستعانوا مجددا بالميليشيات الإيرانية، مع تراجع الدعم التركي للفصائل، لإحراز تقدم في ما يتعلق بالسيطرة على الطرق الرئيسية أم4 وأم5.
التصريحات التركية مازالت تميل إلى التهديد والتصعيد بعملية أحادية شرق الفرات
وتركيا الآن تضع قدما في مسار أستانة مع الروس والإيرانيين، والقدم الأخرى في مسار العمليات المشتركة مع الأميركيين في شانلي أورفة التركية؛ فالتقارب مع الأميركيين أتى بعد شراء تركيا لمنظومة أس 400 الروسية، ما استفز الولايات المتحدة التي يبدو أنها حسمت أمرها بعدم الانسحاب من سوريا، مع رفضٍ وتلكؤٍ أوروبي في ملء الفراغ، وهي تزيد عدد جنودها في قاعدة التنف على المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني.
ورغم التخبط الذي شهدته السياسة الأميركية مؤخراً، إلا أن الاستراتيجية الأميركية في سوريا تميل إلى فرض مناطق حكم ذاتي، شرق الفرات وفي إدلب ومناطق النظام وروسيا، مع تمسك بإخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا، أو تحجيمها ما أمكن.
لكن تنفيذ اتفاق المنطقة الآمنة ليس يسيراً على واشنطن، إذ عليها مراعاة الديموغرافيا السورية، وإقناع الوحدات بالانسحاب من المناطق المتفق عليها، وتهدئة مخاوف تركيا التي لا تثق بالوعود الأميركية بعد تجربة اتفاق “خارطة الطريق” في منبج المتفق عليها في يوليو 2018.
ويعارض الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل، المتقاعد في مارس الماضي من منصب القيادة الأميركية الوسطى، اتفاق المنطقة الآمنة، ويرى أنه ستكون له نتائج عكسية على صعيد الاستقرار، وسيتسبب في نزوح غالبية الأكراد ومفاقمة الوضع الإنساني.
وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من الوصول إلى اتفاق سريع مع الأتراك بشأن المنطقة الآمنة، فهي على الأقل ستماطل وتمتص الغضب التركي وتحبط حالة الاستنفار والحشد مقابل تل أبيض السورية؛ أما إذا نجحت، فهذا يعني أنها وضعت تسوية نهائية لشرقي الفرات، وقد تتدفق إليها أموال إعادة الإعمار من أطراف عربية، ما سيضغط على روسيا للقبول بحل سياسي لكامل سوريا.
على أي حال، إكمال المفاوضات بشأن إنشاء هذه المنطقة وترتيب وضع شرقي الفرات لا يزال محفوفاً بالمخاطر، ومهدداً بالفشل. لكن واشنطن تسابق موسكو في تنفيذ سياساتها في سوريا، فالأولى تريد ترتيب وضع شرق الفرات، وفرض حكم ذاتي فيه، والثانية تريد حسم ملف منطقة خفض التصعيد الأخيرة في إدلب، وكل يريد رفع رصيده حين يتم عقد اجتماع أمني جديد في القدس مع إسرائيل، التي تريدها روسيا عرابة الحل الروسي في سوريا، أي عودة الاعتراف بنظام الأسد، والبدء بإعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
رانيا مصطفى – كاتبة سورية – صحيفة العرب