تتفاوت المواقف من مقاربة السياسة الخارجية لإدارة بايدن للمسألة السورية بين العديد من المعارضين الذين يرجحون ان سياسات الادارات الاميركية المتعاقبة لم تتغير من اوباما حتى بايدن مرورا بترامب، وبانها لا تريد تغيير النظام السوري لأنه الافضل لها ولحليفتها اسرائيل، مبررة ذلك بان النظام حافظ على الهدوء والسلام على حدود الجولان منذ عقود. فيما يعيد آخرون هذه السياسات المفترضة لأن اميركا تركت الامور تسير بلا تدخل سافر لتسقط ايران وروسيا وحزب الله في المستنقع السوري! وبالتالي اضعاف اعدائها في المنطقة والعالم وربما قيام ثورات ضدهم في بلدانهم. بالإضافة لتفريعات اخرى عديدة، مثل ان اميركا لا تريد قيام نظام ديمقراطي في سوريا يضر بمصالحها خاصة في البلدان الحليفة لها في الخليج! هذه التحليلات ومثيلاتها تأتي بناء على تفسيرات لا تعتمد على الوقائع المعاشة والمواقف المعلنة والسياسات المنفذة، وهي الوجه الآخر لـ”نظرية المؤامرة الكونية” التي روجها النظام السوري حول تآمر العالم واميركا خاصة، على محور “المقاومة والممانعة” الذي يشكل النظام احد اطرافه!
لا يمكن ان ننفي رغبة اميركا بإداراتها المختلفة في حدوث تغيير للنظام السوري، او تغيير لسلوكه وسياساته ومواقفه المعتبرة من قبل الحزبين الرئيسيين ضارة بالمصالح الاميركية في المنطقة بتمكينها لتوسيع النفوذ الايراني والروسي على حساب الاميركي في الشرق الاوسط والخليج خاصة. لكن جميع هذه الادارات بما فيها ادارة بايدن لا تصل بهذه الرغبة في التغيير الى استعمال القوة مباشرة الا في حالة تهديد مباشر لأميركا نفسها، فتفضل لأسباب تتعلق بقوانينها التي تمنع اميركا من ان تتحول لـ”شرطي العالم” لاستعمال وسائل اخرى لتحفيز التغيير في انحاء العالم بما يتوافق مع مصالحها وامنها واولوياتها.
ادارة بايدن الحالية لم تخرج عن هذا السياق فسياستها المعلنة والممارسة تجاه المسألة السورية حتى الآن، والتي لا تعتبر من اولويات سياستها الخارجية، تركز اولا على البعد الانساني وايصال المساعدات للملايين من السوريين الذين يفتقدون مقومات الحياة في المناطق التي خرجت عن سلطة النظام، او حتى في مناطق النظام نفسها. وخاضت خلافا حادا مع روسيا حول هذه المسألة التي تريد ان تسلم جميع المساعدات للنظام السوري وعدم استخدام معابر تركية لايصالها مباشرة لمناطق المعارضين. كما تسعى بجهودها الدبلوماسية للحفاظ على وقف اطلاق النار الهش بين المعارضين في الشمال الغربي السوري من جهة والنظام وروسيا من جهة اخرى. وبشكل اجمالي العمل لحل شامل للصراع السوري من خلال الامم المتحدة او خارجها يعتمد تسويات واتفاقات سياسية بين اطراف الصراع المختلفة، واشتراط انه لن تتم المشاركة الدولية لإعادة الاعمار في سوريا الا بعد الوصول لحلول سياسية ترضي الاطراف المتصارعة.
لكن هذا لا يكفي لوصف استراتيجية او سياسة واضحة في الملف السوري، فلا ضغوط حقيقية من الادارة الاميركية لتنشيط الامم المتحدة، في دورها الراكد حاليا، لجمع الاطراف للوصول لحلول سياسية وبشكل خاص في اللجنة الدستورية، مما يسهل حلا سياسيا ضمن مفهوم “لا غالب ولا مغلوب” بموجب قرار مجلس الامن 2245. كما تبرز في الحالة الراهنة مسألة العلاقات مع النظام حيث تتجه دول حليفة لاميركا في المنطقة مثل الامارات والاردن والبحرين للتطبيع مع النظام واعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح مجالات للاستثمارات الاقتصادية والتبادل التجاري. وهي سياسة جديدة واجهتها الادارة الاميركية، وكذلك الاتحاد الاوروبي، برفض التطبيع مع النظام من دون تقديمه تنازلات حقيقية تتعلق بعودة اللاجئين واطلاق سراح المعتقلين وتحقيق تسوية سياسية تشارك فيها المعارضة. فتصريحات ممثليها لا تدعم الجهود الاقليمية الذاهبة باتجاه التطبيع من قبل دول عربية حليفة. وفي تصريحات اميركية اخرى، انها لن تضغط لتغيير سياسات التطبيع، اي انها لا تحبذها ولكنها لم تمنعها فتركت الباب مفتوحا للمطبعين. هذا التعارض يؤكد ان السياسة المتبعة في هذه المسألة غير واضحة وحتى متناقضة، لكن بعض المحللين يرون ان موقف اميركا من التطبيع العربي تغير، اذ حزمت امرها في معارضته مما ادى لتريث او ربما تلكؤ في اتجاه دول عربية للتطبيع بعد ان كان توجهها مندفعا ومستعجلا. كما يشار الى ان احد اوجه التطبيع “خط الغاز العربي” الذاهب من مصر للبنان والمار من سوريا، هل قبول الادارة به يصب في باب التطبيع؟ ام ان هناك وسائل اخرى يمكن بها ايصال الغاز دون المرور بسوريا.
كما ان عدم الوضوح الذي يصل احيانا لحد التناقض يفسر تصريحات مختلفة حول سياسة العقوبات الاميركية الموجهة ضد النظام السوري، فالإصرار على استمرار العقوبات يجمع العدد الاكبر من المشرعين من الحزبين لإجبار النظام السوري لتقديم تنازلات سياسية تمكن من التقدم في مسار الحل السياسي الشامل. ولكن هناك وجهات نظر معارضة لنوعية العقوبات السارية المفعول حاليا، اذ تفضل ان تركز العقوبات المفروضة على الاسد وحاشيته وتبتعد عن العقوبات التي قد تؤدي للإضرار بالأحوال المعيشية للشعب السوري مما سيعقبه المزيد من موجات لجوء السورين للخارج. ولا بد من متابعة مدى ما يمكن ان يلحقه اتفاق نووي جديد بين اميركا وايران، ان حدث رغم صعوبته، على مسألة العقوبات ضد ايران وبالتالي هل سيكون الحل على حساب سوريا، او على حساب النظام السوري. فمطلب إيران الرئيسي الذي ترفضه اميركا بشدة يتلخص برفع كامل وسريع للعقوبات سواء الخاصة بالبرنامج النووي او برنامج الصواريخ البالستية او الانشطة الإيرانية في المنطقة التي تعتبرها واشنطن ارهابية. فالخطة الاميركية رفع تدريجي للعقوبات وحصره بالعقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي وحده، واستثناء عقوبات برنامج الصواريخ الباليستية وسلوك إيران الاقليمي. وعلى الاغلب فأن إيران لن توافق على خيار كهذا وستصر على رفع كامل للعقوبات مقابل تفكيك البرنامج النووي واخضاعه لرقابة دولية جادة.
وحتى في المسألة المتعلقة بالتواجد العسكري الاميركي شمال شرق سوريا لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية، فهناك مواقف وسياسات ترى ان اميركا لن تذهب باتجاه انهاء وجودها العسكري على الارض لمواجهة بقايا داعش، التي تسعى في الوقت الحالي لإعادة الظهور ومحاولة الانتقال من حالة “الخلايا النائمة” الى حالة “المقاومة المسلحة” كما تبين في العملية الواسعة التي ادت للاستيلاء على سجن الحسكة وتهريب عناصر داعش المعتقلة فيه. لكن عدم انهاء الوجود العسكري ليس قضية واضحة عندما يعلن بايدن في تصريحاته أن: “الولايات المتحدة قادرة على القضاء على هذه التهديدات -داعش والقاعدة- دون وجود عسكري على الارض”. وقد ظهر سابقا مدى التردد في هذه المسألة في عهد ترامب عندما اعلن انه سيسحب القوات الارضية الاميركية، ثم تراجع بعد ايام عن تصريحه الاول. وعلى الاغلب قان القوات الاميركية في العراق وسوريا لن تغادر في المستقبل القريب.
اجمالا فان عدم الوضوح وعدم التماسك والتردد هي سمة سياسة بارزة لإدارة بايدن تجاه المسألة السورية حتى ان بعض المحللين يزعمون ان هناك انقسام في السياسة الخارجية الاميركية تجاه الشرق الاوسط بين وزارة الخارجية ومجلس الامن القومي. وقد يذهب البعض الى انه لا استراتيجية اميركية في سوريا، وهذا يعكس بحده الادنى ان المسألة السورية ليست من اولويات الاهتمام للسياسة الخارجية الاميركية بل هي في ذيل قائمة الاولويات التي ركزت اولا على الانسحاب من افغانستان ثم تركز حاليا على مواجهة احتمال اجتياح روسيا لأوكرانيا بعد ان حشدت قوات ضخمة على حدودها. كما تظل الصين على رأس قائمة الاولويات الاميركية لما تشكله من تهديد اقتصادي وعسكري، فقد تحضر ايضا لحرب ضد تايوان حليفة الولايات المتحدة في الشرق الاقصى.
وقد يبالغ بعض المحللين عندما يفسرون سياسات اميركا بانها قد تترك الشرق الاوسط للتركيز على اولوياتها. وهذا من المستبعد حدوثه حيث ان الوجود العسكري الاميركي الواسع في الشرق الاوسط المقدر باربعين الفا في دول الخليج والاردن وتركيا والعراق وسوريا، في قواعد وفي البحار القريبة، لا شيء يشير الى ان هناك نية لإنهائه رغم انشغال اميركا في مناطق اخرى من العالم. ولا بد من الاشارة الى انه هناك مؤخرا ضغوط على ادارة بايدن من اعضاء بارزين من الحزبين في لجنة الشؤون الخارجية للكونغرس لمراجعة استراتيجيتها تجاه سوريا للخروج بخطة متماسكة للتعامل مع المسألة السورية في شتى المجالات بدل التخبط الحالي الذي يتسم بعدم الوضوح للشعب الاميركي وللشعب السوري وللدول الحليفة لأميركا في المنطقة.
جورج كتن – عن ميدل ايست أونلاين
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة