سؤال بات يُطرح بقوة في ظل تصاعد المطالبة المحلية والإقليمية والدولية بسحب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.
حيث تصاعدت هذه المطالبة إثر اتفاق المصالحة الليبية والتوجه لإجراء الانتخابات العامة في البلاد، وتأكيد ضرورة استعادة ليبيا لكامل سيادتها، وقد تجسدت هذه المطالبة بشكل واضح في قرارات مجلس الأمن الدولي بخصوص الأزمة الليبية، ومقررات مؤتمر “برلين واحد”، فضلا عن الدعوات العربية والأمريكية والأوروبية إلى سحب جميع هذه القوات، وعلى المستوى المحلي الليبي تجسدت في محادثات اللجنة العسكرية المشتركة، والتصريحات القوية لوزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، فضلا عن قوى سياسية وعسكرية فعالة على الأرض، في مقدمتها الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر.
الرد التركي على كل هذه المطالبات هو التهرب بذرائع وحجج واهية، ومحاولة فرض سياسة الأمر الواقع على الليبيين، وذلك من خلال الزيارات المفاجئة التي يقوم بها كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين الأتراك إلى ليبيا، وكان آخرها زيارة وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، حيث شكلت تصريحاته خلال هذه الزيارة صدمة كبيرة، عندما قال إن القوات التركية في ليبيا “ليست قوات أجنبية” وأنها “ستواصل مهامها هناك”، وهي تصريحات خلقت أزمة في الداخل الليبي وصلت إلى حد تعليق أعمال جلسة البرلمان لإقرار ميزانية حكومة الوحدة الوطنية بعد نشوب شجار واشتباك بداخله على خلفية الجدل بشأنها.
وعلى غرار “أكار”، يتحجج كبار المسؤولين الأتراك بأن الوجود العسكري لبلادهم في ليبيا هو “في إطار الاتفاقية الدفاعية والبحرية مع حكومة السراج”، لكن في الحقيقة هذا الإصرار التركي على البقاء العسكري في ليبيا يُخفي خلفه الأجندة الحقيقية لتركيا، والتي تتلخص في محاولة السيطرة على ليبيا، واستغلال موقعها الجغرافي للتوسع أفريقيا ومحاولة ابتزاز أوروبا، ما يشكل مخاطر جدية على ليبيا ومستقبلها.
ولعل من أهم هذه المخاطر:
1- أن السياسة التركية هذه لا تتوافق مع العملية السياسية الجارية بين الأطراف الليبية برعاية دولية، بل تشكل عقبة كبيرة أمام تنفيذ خريطة الطريق، وتهدد إجراء الانتخابات المقررة خلال هذا العام، حيث يعوَّل على هذه الخطوات لإنقاذ ليبيا من أزمتها والانتقال إلى مرحلة الاستقرار والسلام والنهوض.
2- أن هذه السياسة تُبقي خطر المواجهة الداخلية الليبية قائماً وقابلا للاشتعال من جديد في أي وقت، خاصة مع تحول تركيا إلى طرف داخلي ليبي ضد طرف آخر، ما يشجع الأطراف والجماعات المسلحة، وخاصة الإخوان، على البقاء كأذرع لتركيا تعمل ضد محاولات الاستقرار واستعادة الدولة الوطنية كمشروع سياسي يجمع كل الليبيين في إطار الهوية.
3- أن الإصرار التركي على البقاء عسكريا في ليبيا مهما كانت الذارئع، يخلق حجة لأطراف أخرى للبقاء عسكريا هناك، حتى لو كان هذا الطرف قوات غير نظامية، وهو ما يشكل ضربة للتوافقات الدولية بشأن الأزمة الليبية، حيث تتوجه الأنظار إلى مؤتمر “برلين 2″، المقرر عقده في الثالث والعشرين من الشهر الجاري لبحث تطورات الأزمة الليبية.
في الواقع، رغم هذه المخاطر، فإن تركيا لا تعطي أهمية للدعوات المطالبة بسحب قواتها من ليبيا، حتى لو كانت هذه الدعوات صادرة عن الحكومة الليبية نفسها، والجميع يتذكر المواجهة الكلامية، التي حصلت بين وزيرة الخارجية الليبية، “المنقوش”، ونظيرها التركي، تشاويش أوغلو، خلال مؤتمر صحفي مشترك بينهما الشهر الماضي، عندما رد “أوغلو” على مطالبة “المنقوش” بسحب جميع القوات من ليبيا بقوله: “لا يجوز مقارنة القوات التركية بباقي القوات”، وما أسماه بـ”المجموعات غير الشرعية”، إذ ينظر العقل السياسي التركي باستعلاء بالغ إلى ليبيا، ويتصرف كأن ليبيا “ولاية تركية”، إلى درجة أن “أكار” زار ليبيا دون إبلاغ المسؤولين الليبيين بزيارته، ما يشكل إهانة حتى لليبيين من حلفاء تركيا.
خلاصة القول، تركيا لا تريد الانسحاب من ليبيا، وبناء عليه تتمسك بقوة بالاتفاقية البحرية والعسكرية مع “حكومة السراج”، التي لم تعد موجودة، حتى لو كان الثمن بقاء الأزمة الليبية دون حل، والعودة إلى الاحتراب الداخلي، وهي في سبيل ذلك تراوغ، تارة من خلال المناورة السياسية بالقول إنها “ستسحب المرتزقة” دون الحديث عن قواتها النظامية، وأخرى بالقول إنها “ستسحب قواتها عندما تسحب باقي الأطراف قواتها”، وثالثة بمحاولة إضفاء الشرعية على وجودها، وهي في كل ذلك تستخدم عامل الوقت لترسيخ نفوذها والجماعات المرتبطة بها في ليبيا، في ظل خشيتها خسارة هذه الجماعات للانتخابات، بما يشكل محركا داخليا ليبيا للمطالبة بإلغاء الاتفاقية البحرية والعسكرية مع تركيا، التي تدرك جيدا أن إلغاء هذه الاتفاقية يعني نهاية مستقبل الوجود العسكري التركي في ليبيا، وهو ما ترفضه تركيا بقوة.
ويبقى الجواب عن سؤال “موعد سحب القوات التركية من ليبيا” مسؤولية دولية بقدر ما هو مسؤولية ليبية وعربية، وذلك قبيل أيام من مؤتمر “برلين 2″، الذي ينبغي أن يأخذ قراراً واضحاً ويضع نهاية للوجود العسكري الأجنبي على الأراضي الليبية.
خورشيد دلي – كاتب سوري ومختص بالشؤون الكردية والتركية – العين الإماراتية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة