إسرائيل وجدت أن من مصلحتها التفاهم مع روسيا لكي تظل لديها حرية كاملة للعمل العسكري في سوريا وفي ساحات أخرى ولكي تستمر في إحباط محاولات إيران توسيع هامش حركتها.
المشهد السوري يتحول لغير صالح إيران وتركيا
يُفهم من خلال القصف الجوي الإسرائيلي الأخير لمواقع في غربي سوريا وتزامنه مع قصف روسي نوعي لأهداف في جنوب إدلب أن مستوى التنسيق الروسي – الإسرائيلي قد وصل على مستوى التناغم الميداني ودقته إلى مستويات غير مسبوقة تخدم سياسات محددة موصولة بالدور السياسي الروسي في المنطقة. ففي الأيام القليلة الماضية تزامن القصف الإسرائيلي لمحيط اللاذقية مع القصف الروسي لمحيط حلب. وتزامن القصفان مع بدء الحديث علنا عن تقارب سعودي – سوري برعاية روسية. ومن الناحية العسكرية روعي في التفاهم الروسي – الإسرائيلي أن يقتصر قصف الأهداف على مخازن السلاح والتقنية الإيرانية مع تجنب إلحاق خسائر في الأرواح، ووفق هذه القاعدة جرى فتح مسرح العمليات استثنائياً للطيران الإسرائيلي على طول الساحل السوري وعلى مقربة من قاعدة حميميم الروسية!
في الهجوم الجوي الأخير اشتعلت النيران في مصنع إنتاج البلاستيك، إذ استُهدف ما فيه إما من مواد أو منتجات في حقيقتها. لكن موضع الأهداف على الخارطة يؤكد على التفاهم الذي أعطى الإشارة الخضراء لسلاح الجو الإسرائيلي، على أن يلتزم الأخير الدقة المطلقة لكي لا تُصاب أية أنظمة دفاع جوي أو ذخائر روسية في المنطقة. وكان العمل ببنود هذا التفاهم قد جرى مع مراعاة أقصى درجات الحذر منذ إسقاط الطائرة الروسية بصواريخ مضادة للطائرات في حوزة الدفاع الجوي السوري في سبتمبر 2018، لكن إسرائيل تجنبت في معظم الوقت الاقتراب من القطاع الغربي الساحلي.
كان اختيار إسرائيل لمواضع الهجمات الأخيرة يستهدف التموضع الإيراني في غربي سوريا، بل يستهدف النقاط الإيرانية في ظلال الروس أو في نطاق دائرة الدفاع الجوي الروسية في غربي البلاد. ويدل هذا الاستهداف على أن منظومة التنسيق الروسية الإسرائيلية طورت فاعليتها وفقاً لتطور السياسات في المنطقة وما هو مشترك بين الدولتين.
لم تكن إسرائيل قد توقفت عن القصف طوال السنوات الماضية حتى يوم 22 أبريل الماضي. ويبدو أن إطلاق صاروخ أرض جو بالخطأ من سوريا ووصوله إلى النقب وعلى مقربة من مفاعل “ديمونا” الذري وأربك الإسرائيليين كان السبب المباشر في تطوير عملية التنسيق الروسية – الإسرائيلية التي لم يحدث أي خلل في عملها وفق مُحدداتها الأساسية. لكن الطرف الإسرائيلي استغل الصاروخ الذي انفجر في الهواء لتظهير ما يعتبره خطراً إيرانياً عليه، والمبالغة في تقدير هذا الخطر. وكانت هذه التقديرات التي تغذيها أجهزة الأمن الإسرائيلية تؤكد أن إيران وعلى الرغم من القصف المستمر لنقاط تموضعها لا تزال تواصل تعزيز قواتها في سوريا من خلال نقل وسائل قتالية ومعدات إلى المناطق القريبة من لبنان. وكان من بين الأسباب التي تقلق أجهزة الأمن الإسرائيلية ما يقال عن صواريخ دقيقة يسعى “حزب الله” إلى الحصول عليها، إذ هو في تقدير الإسرائيليين لا يملك بعد مثل هذه الصواريخ، وليست لديه قدرة على إنتاجها، لكنه سيشكل خطراً حقيقياً في حال حصوله عليها. فالناطقون الإسرائيليون عبروا صراحة أن امتلاك مثل هذه الصواريخ يمثل خطاً أحمر، وقد تعمدوا استخدام هذه الفرضية لجعلها قاعدة المزيد من التفاهم مع الروس مقابل تحييد إسرائيل النظام السوري نفسه، بل وفتح بعض الطرق العربية المغلقة أمامه.
وبينما استمر التطور على مستوى العلاقة الروسية مع دول المنطقة، كانت الولايات المتحدة ومعها أوروبا تتقدمان نحو استئناف المفاوضات مع إيران حول الملف النووي، على أن يكون هدف هذه المفاوضات عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، بخلاف ما يُرضي إسرائيل التي تحبطها بالدرجة الأولى احتمالات تدني تأثيرها على الإدارة الأميركية في محادثات الملف الإيراني. وإسرائيل بالطبع تعتبر هذا التأثير موصولاً بقدرتها على فتح ملفات تتعلق بقضايا أخرى، كتموضع القوات الإيرانية على مقربة من الحدود في سوريا، وإمداد إيران “حزب الله” في لبنان، والحوثيين في اليمن، وإمداد ميليشيات أخرى في العراق وسوريا بصواريخ كاتيوشا ومعدات عسكرية.
لقد وجدت إسرائيل أن من مصلحتها التفاهم مع روسيا لكي تظل لديها حرية كاملة للعمل العسكري في سوريا وفي ساحات أخرى، ولكي تستمر في إحباط محاولات إيران توسيع هامش حركتها أو تغيير قواعد الاشتباك معها. وقد أدى حرص إسرائيل على حرية العمل العسكري في سوريا إلى إبرام اتفاقات غير معلن عنها مع روسيا من شأنها أن تجعل المشهد السوري والإقليمي تالياً منطقة طرد لا جذب للأميركيين. ويمكن للمرء أن يتوقع مفاجآت على صعيد علاقات النظام السوري مع إسرائيل. فالأول أصبحت علاقاته مع روسيا ضمانة وجوده، وبسببها هو مضطر لعدم الاعتراض على التنسيق الميداني الروسي – الإسرائيلي، حتى عندما يُترجم إلى قصف شبه يومي يطال الإيرانيين الذين كانوا أول المبادرين إلى نجدة نظام الأسد. وقد اتضح تماماً أن موسكو منخرطة في سياق يتعلق بالعلاقة بين دمشق وتل أبيب. ومن جهته يعتبر نظام الأسد أن الأولوية القصوى هي بقاؤه، لذا جرى تقديم جرعة تساعده على الثقة بالنفس والمفاخرة بأن “العرب” هم الذين عادوا إليه، وكانوا المبادرين، وتراجعوا مقابل تنازلات يؤخذ إليها النظام تمس جوهر المسائل، كالتغيير الجزئي في بنية النظام، والتطبيع مع إسرائيل من خلال الذهاب إلى تصفير المشكلات معها، مع شيء من التدابير أو الصيغ لتحسين أحوال الفلسطينيين تحت عنوان المساندة لهم ولقضيتهم.
المشهد السوري يتحول الآن بشكل أوضح لغير صالح إيران وتركيا. والإيرانيون لا يستطيعون فتح مشكلة مع الروس بسبب اعتمادهم عليهم في الكثير من المسائل في التقنية العسكرية وفي الدعم السياسي. أما الأتراك فقد جرى التصعيد الروسي ضد الجماعات التابعة لهم في شمالي سوريا، واقترب القصف الروسي لتلك الجماعات من القواعد التركية، واستخدمت قذائف “موتاب” الروسية المضيئة بالقرب من القواعد التركية لتجريب فعاليتها الميدانية بتعطيل حركة المجموعات المعارضة المسلحة. ويُعد هذا الصاروخ أحد الأسلحة النوعية التي أدخلتها روسيا إلى شمالي سوريا واستخدم يوم الجمعة الماضي. فصاروخ “موتاب” مصمم للقصف الليلي وإضاءة مسرح العمليات بقوة ساطعة. وكان إدخال هذا السلاح، تحسباً – كما يُقال – لهجوم حشدت له جماعات المعارضة المسلحة الموالية لتركيا وتعتزم شنه على جيش النظام. وشن الطيران الروسي غارات كثيفة استهدفت مستودع أسلحة وطائرات مسيّرة تركية الصنع كانت على وشك الإقلاع من مناطق سيطرة المعارضة باتجاه العمق السوري. لكن الأمر في الجوهر هو تصميم الروس على إخراج تركيا من المعادلة السورية، وإحالتها إلى وجهة أخرى تصالحية في المشرق العربي، حتى ولو كان ذلك بالطريقة التي تنال من صدقية السياسة التركية ومن عنصر الثقة في تحالفاتها.
عدلي صادق – كاتب وسياسي فلسطيني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة