الوضع في ليبيا لا يفتح أيّ نوافذ أمل حقيقية لطيّ صفحة الماضي، والنافخون في رماد الفتنة مستمرون في السعي لإحياء الجمرات التي قد تدفع نحو إشعال الحريق من جديد.
الحل الحقيقي للأزمة لا يزال بعيدا
ليس هناك ما يعد بمستقبل أفضل للأوضاع في ليبيا، وكل ما قيل ويقال عن مغادرة حقل الأزمة المتفاقمة منذ سنوات، يبقى مجرد كلمات منثورة على أرضية الوهم.
كنت أشرت في مناسبات عدة، أن ما حدث في ليبيا في العام 2011 لا علاقة له بما حدث في تونس ومصر، وإنما كان امتدادا لما حدث في العراق في العام 2003 من تدخل عسكري خارجي أدى إلى ضرب البناء الهيكلي للدولة، وإلى تدمير كامل لمؤسساتها الأمنية والعسكرية والمجتمعية بهدف اجتثاث الأسس العقائدية للنظام، ما أدى إلى إحداث فراغ متعمّد، ملأته الميليشيات التي سرعان ما سيطرت على المشهد السياسي وتحكّمت في مفاصل السلطات الجديدة، وشكّلت كيانات اقتصادية خاصة بها ضمن مناطق نفوذها، وتحول العمل الميليشياوي إلى مصدر نفوذ وثروة ووجاهة اجتماعية.
يبدو المجلس الرئاسي في حالة شلل واضح، كما أن رئيس الحكومة يميل إلى ربط العلاقات الخارجية أكثر من التفاعل من الداخل
ولمدة 18 عاما، لم يتم حل ميليشيات العراق، وإنما تحولت إلى قوات موازية للجيش النظامي الذي تشكل لاحقا وللأجهزة الأمنية، وتشكلت من داخلها خلايا متمرّدة ليس على السلطة المركزية فحسب، وإنما كذلك على قوات الاحتلال التي كانت وراء فتح المجال أمامها للظهور بذلك الوجه العنيف. وإذا كانت إيران قد استغلت الفراغ في العراق لخدمة مشروعها القومي من منطلقات طائفي، فإن تركيا تمارس اليوم نفس اللعبة في ليبيا، وهي تتحدى المجتمع الدولي وتدوس على جميع التوافقات الحاصلة سواء بين الفرقاء في الداخل تحت رعاية الأمم المتحدة أو على الصعيدين الإقليمي والعالمي، مستفيدة من الحاضنة الميليشياوية التي تأسست منذ العام 2011 تحت مظلة الناتو، ومن قوى الإسلام السياسي وحلفائها ممن يمارسون الاستقواء بنظام أردوغان ويتحصّنون به ويدافعون عن دوره في بلادهم إلى ما لا نهاية، ولا يكفون عن جهود البحث اليومي عن مبررات لهذا الدور، سواء بتغيير ملامح التاريخ، أو بالقفز على حدود الجغرافيا، أو بقضّ المفاهيم والحسابات الاستراتيجية.
إن الوضع في ليبيا لا يفتح أيّ نوافذ حقيقية عن أمل لطيّ صفحة الماضي، والنافخون في رماد الفتنة مستمرون في السعي لإحياء الجمرات التي قد تدفع نحو إشعال الحريق من جديد في أي وقت. والمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية أعجز عن أن يستطيعا المبادرة بتغليب العقل والمنطق. فمقاليد الحكم الحقيقية موجودة لدى أمراء الحرب وقادة الميليشيات وجماعة الإخوان ولوبي المصالح التركية بأبعاده المالية والاقتصادية والأيديولوجية والثقافية، ولاسيما في طرابلس ومصراتة. وهذا الطيف وإن كان لا يعبّر عن وجهة نظر الأغلبية الساحقة من الليبيين، إلا أنه الأكثر تأثيرا وفاعلية، فالشعب في النهاية يبقى كتلة هلامية موزعة على خارطة شاسعة من الأرض، ومساحة واسعة من الهموم والهواجس والحاجات، وليس له أحزاب قوية أو مؤسسات مؤثرة قادرة على توحيد صفوفه والانطلاق به في مسيرة المواجهة مع الواقع المفروض عليه.
يراهن التيار الرافض للحل السياسي على تعطيل تنفيذ الاتفاق العسكري ومن ورائه الوقف النهائي لإطلاق النار. وأبسط بنود الاتفاق لمن يطلع عليه، هو فتح الطريق الساحلية بين المنطقتين الشرقية والغربية، بما يفسح المجال للمواطنين والعمال والتجار بالتنقل مرورا بسرت ومصراتة، دون الالتجاء إلى الطرق الصحراوية الملتوية. لكن الميليشيات رفضت ذلك بقوة وتجاهلت وساطات السفيرين الأميركي والألماني والمبعوث الأممي ومحاولات المنفي والدبيبة لإقناعها، وضربت بقرارات اللجنة العسكرية المشتركة عرض الحائط، ولا تزال تسعى إلى ابتزاز الحكومة للحصول على 700 مليون دولار مقابل فتح الطريق، وهو مبلغ تعجيزي الهدف منه إبقاء الوضع على ما هو عليه.
التيار ذاته يرفض إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة، ويضغط على الحكومة من أجل الإبقاء على الأتراك وإضفاء الشرعية على وجودهم كقوات حليفة دخلت البلاد وفق اتفاق سابق بين السراج وأردوغان، ولا يقبل التطرق إلى موضوع حل الميليشيات التي يعتبرها قوات عسكرية نظامية فيما يعتبر قوات الجيش ميليشيات يجب حلها، وبالتالي لا يترك مجالا لتوحيد المؤسسة العسكرية، وهو الهدف الذي لا يمكن للبلاد أن تغادر حالة الانقسام من دونه، ليتخذ الصراع أوجها عدة، جهوية ومناطقية وعقائدية، وليتورط الدبيبة في دائرة الانحياز إلى الأقربين جهويا بدل الانحياز إلى المصلحة العامة ولو بحركات المجاملة مع الخصوم وحتى الأعداء، ليجسّد بذلك خصوصيات وظيفته كرئيس لحكومة وحدة وطنية وليس كرئيس لإقليم طرابلس.
وذات التيار هو الذي يعرقل مسار الانتخابات، فقط لأنه يخشى ألا يفوز فيها. فحينا يطالب بالاستفتاء على مسودة الدستور أولا، وهو يعرف أنها مثيرة للجدل ومرفوضة من أغلب الليبيين، وحينا آخر، يشترط ألا يتم انتخاب رئيس الدولة عن طريق الاقتراع الشعبي المباشر، وإنما من قبل البرلمان، باعتبار شراء ذمم العشرات من النواب ممكنا في حين من غير الممكن شراء ذمم الملايين من الناخبين، وهدفه من كل ذلك أن يرتهن الليبيون لخياراته، وأن تبقى مقاليد السلطة بين يديه ليمارس دكتاتورية الأقلية التي لا تريد الاعتراف بوعي ووجاهة وجدارة الأغلبية بتقرير مصيرها.
مقاليد الحكم الحقيقية موجودة لدى أمراء الحرب وقادة الميليشيات وجماعة الإخوان ولوبي المصالح التركية بأبعاده المالية والاقتصادية والأيديولوجية والثقافية
ومن الطبيعي أن التيار الرافض للحل السياسي هو ذاته المعرقل للمصالحة الوطنية، والحائل دون الخروج من بؤرة الصراع، والذي يدفع إلى بقاء الميليشيات في معسكراتها، والقوات الأجنبية في قواعدها، والانقسام السياسي والميداني على حاله، وهو الذي يناور من أجل عرقلة الانتخابات، فإذا فرض المجتمع الدولي تنظيمها في موعدها المحدد، سيجد الآليات الكفيلة بالانقلاب على نتائجها، كما حدث سابقا، ولاسيما أن الإخوان لا يرون أنفسهم إلا مسيطرين على المشهد السياسي، والأتراك لا يقبلون بغير البقاء لضمان مصالحهم.
يبدو المجلس الرئاسي في حالة شلل واضح، كما أن رئيس الحكومة يميل إلى ربط العلاقات الخارجية أكثر من التفاعل من الداخل، ومن يقترب أكثر من المشهد، يرى أن السلطات المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي مشدودة بذات الحبال التي تكتّفت بها حكومة السراج المنبثقة عن اتفاق الصخيرات، مع مكر متأصّل في إعطاء المجتمع الدولي ما يودّ سماعه، واللعب من تحت الطاولة لإحباط مساعيه، لتستمر مصالح وامتيازات المسؤولين وهموم وعذابات المواطنين، أما الحل الحقيقي للأزمة فلا يزال بعيدا.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة