في الوقت الذي لا يزال فيه الصراع محتدما بين الفرقاء الليبيين حول تقاسم الثروة ونيل رضا القوى الدولية المؤثرة بما يسمح لصانعي القرار الحاليين بالبقاء في مواقعهم إلى أجل غير مسمّى، تشهد منطقة الساحل الأفريقي تطورات عسكرية وسياسية وتحولات اجتماعية واقتصادية من المنتظر أن تنعكس سلبا على الوضع في دول شمال أفريقيا وعلى رأسها ليبيا، التي تبدو حدودها الجنوبية وقد تمنطقت بأحزمة متفجرة تهدد أمنها واستقرارها.
وإذا كانت الأوضاع في تشاد والسودان قد أدت إلى تأجيل النظر في ملف إجلاء المرتزقة واستبعاد موعد الانتخابات في اتجاه العام القادم مبدئيا، فإن مستجدات الوضع في النيجر دخلت بالمنطقة ككل في مرحلة من الغموض والترقب الحذر لما ستؤول إليه الأحداث وتأثيراتها على المحيط الإقليمي، وعلاقة ذلك بالتوازنات الدولية وصراع الأقطاب المتنافسة على بسط نفوذها على دول الساحل ومنها ليبيا، التي كانت عبر تاريخها الطويل بوابة الصحراء وجسر التواصل بين شمال أفريقيا ووسطها كما هي بين المشرق والمغرب العربيين.
بعد الصدمات التي تعرضت لها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ستحاول فرنسا تأكيد حضورها جنوب ليبيا، وقد مهدت لذلك بدورها المؤثر في اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 سواء في تونس أو باريس
لا يمكن لما يحدث في السودان أو تشاد أو النيجر إلا أن ينعكس على الوضع في ليبيا، سواء بالسلب أو بالإيجاب، وذلك بسبب الحدود الممتدة على حوالي 2000 كيلومتر والتي من الصعب السيطرة عليها من قبل الأجهزة الحكومية، ونتيجة التداخلات العرقية والقبلية والثقافية والاجتماعية، ولتعدد وتنوع القوى المهيمنة على دواليب الاقتصادات المحلية، التي ينبني الجزء الأهم منها على تهريب البشر والسلاح والوقود والسلع التموينية وغيرها، وعلى استغلال غياب الرقابة الحكومية في نهب الثروات وخاصة الذهب الذي بات خلال السنوات الماضية أحد أهم دوافع الحروب الأهلية بالمنطقة.
ولا يمكن فصل الانقلاب على الرئيس محمد بازوم عن الصراعات العرقية في المنطقة، وعن الموقف من الأقلية العربية في النيجر، والتي سبق وأن تعرضت لمحاولات تصفية وجودها من البلاد، وهي التي لا تمثل أكثر من 2 في المئة من عموم الشعب النيجري البالغ 23 مليون نسمة، ولاسيما بعد أن تبين أن التحالفات السياسية التي جاءت بالرئيس المخلوع إلى سدة الرئاسة سرعان ما انهارت وتفتت أمام التوازنات العرقية والقبلية والاجتماعية سواء داخل النيجر أو في المنطقة ككل، وأمام تأثيراتها البالغة على الوضع السياسي العام.
خلال الفترة الماضية، تم التطرق إلى مساهمات عرب النيجر في القتال إلى جانب قوات الدعم السريع ضد الجيش السوداني، وهم عموما من قبيلة “المحاميد” التي سبق وأن تعرضت لمحاولة التهجير القسري نحو تشاد في العام 2006، ويعتبرون أبناء عمومة قبيلة “الرزيقات” التي ينتمي إليها محمد حمدان دقلو، الملقب بـ”حميدتي”، وللقبيلتين امتدادات داخل تشاد وليبيا إلى جانب النيجر والسودان، وطموحات إلى تشكيل كيانات مستقلة في ظل حالة التفكك التي تعاني منها الدولة الوطنية في منطقة الساحل والصحراء.
وأذكر أنني شاهدت مؤخرا شريط فيديو لشاعر شعبي ليبي كان يلقي قصائد مدح في الرئيس بازوم بعد تدخله للإفراج عن ابن عمه الشاعر الغنائي ومسؤول الأمن الخارجي السابق في ليبيا عبدالله منصور من سجون الميليشيات بطرابلس في فبراير الماضي، وتعود أواصر القربى بينهما إلى انتمائهما إلى قبيلة أولاد سليمان السليمية الليبية ذات الحضور البارز في إقليم فزان جنوبا، وفي هراوة بشمال وسط ليبيا، والتي لها فرع بالنيجر لا يزال متمسكا بالعادات والتقاليد والمفردات البدوية الليبية.
وإذا كانت نيجيريا ترتبط بعلاقات اجتماعية وطيدة مع نصف الشعب النيجري من خلال الانتماء المشترك لإثنية الهوسا، فإن ما يربط بين ليبيا والنيجر هو الامتدادات العرقية للطوارق والتبو بالإضافة إلى الأقلية العربية، وأيّ صراع دموي في النيجر أو حصار اقتصادي عليها سيدفع بالكثير من مواطنيها إلى التدفق نحو الجنوب الليبي عبر الحدود المشتركة التي يبلغ طولها 342 كيلومترا، وتمتد من النقطة الثلاثية مع الجزائر في الغرب إلى النقطة الثلاثية مع تشاد في الشرق.
لا يمكن لما يحدث في السودان أو تشاد أو النيجر إلا أن ينعكس على الوضع في ليبيا، سواء بالسلب أو بالإيجاب، وذلك بسبب الحدود الممتدة على حوالي 2000 كيلومتر والتي من الصعب السيطرة عليها من قبل الأجهزة الحكومية
ولا شك أن الوضع المتفجر في النيجر ينذر بمواجهة مفتوحة على الصعيد الإقليمي، في ظل الصراع المفتوح بين فرنسا ومن ورائها الحلفاء الغربيون وروسيا، التي ما انفكت تتمدد في منطقة الساحل والصحراء وخاصة في دول مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى وتشاد والسودان، مع حضور مؤثر في ليبيا إلى جانب الجيش الليبي المسيطر على شرق البلاد وجنوبها وعلى الحدود المشتركة مع النيجر.
ولا تخفى فرنسا تطلعها إلى التمركز في إقليم فزان الذي ترتبط معه بعلاقات تاريخية، ففي أثناء الحرب العالمية الثانية قامت قوات فرنسا الحرة بطرد القوات الإيطالية واحتلال مرزق وهي بلدة رئيسية في فزان في 16 يناير 1943، وظل الجنوب الليبي تحت السيطرة العسكرية الفرنسية حتى 1951 عندما أصبحت ولاية فزان بعد ذلك جزءا من المملكة الليبية المتحدة، بعد استفتاء أجراه أبناء فزان وعلى إثره أعلن الملك إدريس السنوسي المملكة الليبية المتحدة في 24 ديسمبر 1951.
وبعد الصدمات التي تعرضت لها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ستحاول فرنسا تأكيد حضورها في جنوب ليبيا، وقد مهدت لذلك خلال الأشهر الماضية بدورها المؤثر في اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 سواء في تونس أو باريس، ومن خلال سعيها لتوطيد العلاقات مع بعض القيادات الاجتماعية في فزان من التبو والطوارق والعرب، وفيما يبدو أن هناك ميلا شعبيا أكبر لروسيا وخاصة من أنصار النظام السابق. وخلال السنوات الماضية خسرت فرنسا النصيب الأكبر من تأثيرها الثقافي والاجتماعي، نتيجة دعمها للأنظمة الدكتاتورية بما يخدم مصالحها واستغلالها لثروات الشعوب والحملات الدعائية التي قادتها ضدها التيارات القومية والدينية، بالإضافة إلى أخطائها السياسية الفادحة ومنها دورها في التدخل المباشر في ليبيا في العام 2011، والذي انتهى بخسارتها أهم معاقلها في مستعمراتها السابقة بالمنطقة.
ففي الوقت الذي يتواصل فيه تنافس الفرقاء الليبيين على نهب المال العام والتلاعب بالثروة، وتدور المساومات الرخيصة من وراء الستار على تقاسم المصالح والإبقاء على الامتيازات، من خلال التمسك بمقاليد السلطة ولو عبر استخدام السلاح، وفيما تتشكل ملامح الحكم العائلي في طرابلس وبنغازي وفق خصوصيات كل طرف، يخشى الليبيون من أن تتحمل بلادهم جزءا مهمّا من عبء أيّ حرب قد تندلع في النيجر، سواء بتدفق المهاجرين غير النظاميين أو بتسلل الجماعات الإرهابية التي ستكون جزءا من المواجهة، بعد أن يتم استعمالها من قبل بعض الدول التي اعتادت على تجيير الإرهاب لخدمة مشاريعها التوسعية، أو للحفاظ على مصالحها في المناطق التي باتت منبوذة فيها بقرار من الشعوب المنتفضة ثوريا أو المندفعة نحو الخيارات الفوضوية.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة