حظيت قبل أيام بزيارة دمشق درة سوريا، وحُق لأهلها تسميتها “الشام”، فهي خلاصة مكنون جمال الشام وثقافتها وتاريخها وحضارتها.
عدت إلى “الشام” بعد نحو ربع قرن على زيارتي الأولى، حين قضيت أشهرا في ربوع البلد الذي حباه الله بالجمال والكرم. وما زالت المشاعر جياشةً نحو المكان الرحب وأهله الطيبين.
التقيت الرئيس السوري بشار الأسد، تحضيرا لمقابلة أجرتها معه قناة سكاي نيوز عربية، بثت الأربعاء الماضي ولاقت صدى كبيرا. وكان لافتا مستوى انفتاح الفريق الإعلامي بالرئاسة السورية، ومستشارة الرئيس السياسية عبر تأكيد الاستعداد لطرح أي سؤال مهما كان على الرئيس الأسد. وقد سُجلت المقابلة دون توقف أو انقطاع أو إعادة ترتيب، وبُثت كما هي دون حذف ثانية واحدة.
مضمون المقابلة، أعادني إلى التفكير في حال هذا البلد العربي الذي تجرع كأس الحرب المُـرة لأكثر من عقد من الزمن. لست هنا بصدد تحميل المسؤولية لأحد أو الخوض في تفاصيل بدايات الأحداث وأسبابها.
لكن لا بد من التأكيد أن الأجواء كانت مشحونة في تلك الأيام، وسط مطالب شعبية بالتغيير والإصلاح ومحاسبة بعض المسؤولين عن انتهاكات محددة، وعبّر المدنيون السوريون عن ذلك من خلال مظاهرات سلمية في البداية. والمؤسف أن تنظيمات متطرفة استغلت تدهور الأوضاع فيما بعد، وهو أمر لم يكن في سوريا وحدها، بل في كل الدول العربية التي شهدت ما عرف بـ”الـربيع العربي”.
تداعى الإرهابيون إلى سوريا من كل حدب وصوب في مشارق الأرض ومغاربها، وقد ساعدت الميليشيات التي تقادمت إلى سوريا من شمال أفريقيا كنتيجة لوصول الإخوان للسلطة في أكثر من بلد هناك، على هذا الأمر، وذلك بمعية إخوان مصر حين كانوا في الحكم، بينما كانت قطر وتركيا رأس الحربة في العمليات اللوجستية والتمويل وتسهيل دخول الإرهابيين وتدريبهم.
كل ذلك جرى في إطار محلي وإقليمي ودولي معقد، وكان لتنظيم الإخوان ومن على شاكلته، الدور الأبرز في تفاقم الأوضاع، خصوصا خلال المراحل الأولى لعسكرة الحراك الشعبي، وهذا ما جلب انتقادات من بعض الأفراد الليبراليين في المعارضة السورية، وقد عبر لي المعارض السوري الراحل ميشيل كيلو عن ذلك صراحة، خلال إحدى جولات التفاوض في جنيف.
خاضت سوريا المعركة دون مساعدة عربية، بل وقف معظم العرب ضدها وعلقوا عضويتها في الجامعة العربية، ووصل الأمر بدول عربية أن دعمت عسكرة “الانتفاضة” ولم يكن ذلك في الخفاء.
حينها لجأت سوريا إلى طلب مساعدة إيران وروسيا، وخاضت معركة وجودية أدت إلى الوصول للوضع الراهن، ورغم أن العرب – بعد سنوات عجاف – أوقفوا الدعم العسكري والمالي للمعارضة ورفعوا تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، فإن الجرح العربي في الجسد السوري لا يزال عميقا جدا.
واليوم لا تبدو عودة سوريا الكاملة إلى الحضن العربي، بتلك السهولة المتخيلة، ولن تكتمل دون بذل العرب لجهد كبير لجبر الخواطر والإسهام في تغيير الأحوال المعيشية للشعب السوري، الذي يعول كثيرا على العودة إلى الجامعة العربية لتحسين وضعه الاقتصادي.
تطلعات السوريين نحو العرب، يعبر عنها ” أبو النور” الملقب بـ”الشيخ” الذي التقيته الأسبوع الماضي في “مقهى النوفرة” بدمشق القديمة، حيث يعمل نادلا منذ خمسة وأربعين عاما، ويعول كثيرا على الدعم العربي لتغيير الأحوال المعيشية، ويتقاسم سوريون كثر وجهة النظر ذاتها مع “أبو النور”، ويقرون بأهمية التعويل على السائح العربي، بدل السائح الإيراني الذي لا يصرف إلا دراهم معدودة.
سوريا دولة محورية في النظام الإقليمي العربي، والحفاظ على كيان دولتها الوطنية في مقابل قوى التطرف الراديكالية، ضرورة تاريخية ومسؤولية عربية، كما أن إعادة إعمار سوريا وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، مهمة عربية عاجلة يجب أن تتحقق.
لا يختلف اثنان في أن دعم روسيا وإيران ساهم كثيرا في بقاء الدولة السورية، إلا أن السبب الأساسي الذي أنقذ البلد هو بقاء المؤسسة العسكرية قائمة وهي عماد الدولة المركزية الحديثة منذ نشأتها، ومن المعلوم أن الحفاظ على هيكل الدولة وبنائها المؤسسي عبر منع الانهيار والتفكك، هو شرط للإصلاح والانفتاح.
الأوضاع في ليبيا واليمن ولبنان وسوريا والعراق، رسخت القناعة بأن حكم الميليشيات والجماعات المتطرفة هو الخطر الأكبر على الأمن الإقليمي العربي، لذلك لا بد من إنهاء “احتكار” المظلة الإيرانية – الروسية لسوريا، وذلك لا يتحقق إلا بتكثيف الدعم العربي سياسيا واقتصاديا؛ بالفعل والعمل لا بالأقوال والوعود فحسب.
وهنا نشير إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة، تميزت برؤيتها الاستراتيجية الثاقبة في إدراك أهمية الحفاظ على سوريا، وتجسد ذلك في استمرار عمل سفارة سوريا وقنصليتها، وترك المجال مفتوحا للرحلات الجوية، فضلا عن الحفاظ على التبادل الاقتصادي معها وفتح الأبواب لها في المعارض الثقافية والتجارية، حتى في أحلك ليالي الأزمة.
ثم كانت الإمارات سباقة في جهود إعادة سوريا إلى الأسرة العربية، وتجلى ذلك في افتتاح سفارتها بدمشق قبل خمسة أعوام، واستمرار الجهود الدبلوماسية بعد ذلك.
وقد لمست من الرئيس السوري بشار الأسد اهتماما كبيرا بدولة الإمارات وتقديرا لما قدمته لبلاده، كما تحدث عن الإمارات بالكثير من الإعجاب، كحال المسؤولين الذين التقيناهم، وأشادوا بالوقفة الإماراتية الشجاعة، كما أن الشعب السوري يتطلع إلى الإمارات ودورها الإيجابي في الساحة العربية، ويعول على الاستثمارات القادمة منها، كما يعول أيضا – بشكل كبير – على المملكة العربية السعودية في تحسين الأحوال المعيشية.
بدأ العرب شق طريق عودة سوريا إلى النظام الإقليمي العربي، وعسى أن تكلل جهودهم بالنجاح، بالتوازي مع ما رأيناه في السنوات الأخيرة من تحسن كبير في عودة العراق إلى الحضن العربي، والبلدان لديهما الأهمية نفسها في محور القوة العربي.
إلا أن هذه العودة لا بد أن تُعززَ بخطوات عربية لتحسين الأوضاع الاقتصادية للشعب السوري، وبذل جهد عربي دبلوماسي لرفع العقوبات الأميركية، وتشجيع رأس المال العربي للاستثمار في سوريا، وفتح الباب أمام المواطن العربي للذهاب للسياحة في سوريا.
أما الرئيس السوري بشار الأسد فتقع على عاتقه مسؤولية كبيرة ببذل خطوات إيجابية تساعد العرب في مهمتهم، التي تحتاج سلوك مسار طويل وشائك، لكنه مضيء بأملٍ يشير إلى نهاية قريبة لهذه الغمة؛ التي آلمت سوريا وأحزنت العرب وأقلقت العالم.
الشيخ ولد السالك – صحفي موريتاني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة