قمة الدول الثلاث الضامنة التي انعقدت في أنقرة الاثنين الماضي، كانت كما سابقاتها، منصّة لترسيخ الحلف الثلاثي، الروسي والتركي والإيراني، في سوريا، ونقاشات وتصريحات من الزعماء الثلاثة تخفي وراءها الكثير من الخلافات التي لم تحسم بعد حول الملفات الرئيسية في سوريا، كملف العملية السياسية والذي اختصر إلى عقد لجنة دستورية، وملف خفض التصعيد في إدلب وتسيير دوريات مشتركة وفتح الطرق الرئيسية وإنهاء المجموعات الجهادية، وملف شرق الفرات، الذي تتفق الأطراف الثلاثة، في بيان القمة، حول رفض قيام كيان انفصالي بزعامة قوات سوريا الديمقراطية الذي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية العصب الرئيسي فيه؛ بينما لا تحظى تركيا بدعم روسي وإيراني كامل بخصوص أن يكون الشريط الحدودي، وبعمق 32 كم، منطقة نفوذ لها.
تلاقت مصالح كل من موسكو وطهران مع أنقرة بخصوص الرغبة في تشكيل ضغوط على واشنطن عبر تحالف أستانة. فروسيا ترى الطرف الأميركي منافساً لها في سوريا، ويسيطر على الثلث الأغنى من مساحة سوريا، عبر دعمه قوات سوريا الديمقراطية، واستجابته للنوايا الانفصالية للأطراف الكردية، بعد تراجع قنوات التواصل بين هذه الأطراف مع روسيا وحكومة دمشق، نتيجة الاستقواء بالدعم الأميركي؛ وكانت هذه القنوات تنشط في فترات التراجع الأميركي وتصريحات التخلي الأميركي عن دعم قوات سوريا الديمقراطية، خاصة حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، نهاية العام الماضي 2018، نيته سحب قواته من سوريا.
المفاجئ والجديد في الموقف من القوات الكردية هو إعلان النظام السوري، في رسالة وجهها مندوبه في الأمم المتحدة، بشار الجعفري، إلى المنظمة الدولية، وفي توقيت انعقاد قمة أنقرة، معتبرا فيها أن قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني ومتفرعاته هي “منظمات إرهابية”، يضاف ذلك إلى بيان لوزارة الخارجية حول اعتبار النوايا الانفصالية للجماعات الكردية “تخدم المخططات الأميركية والإسرائيلية، وإدانة للممارسات القمعية بحق أبناء الشعب السوري، وسرقة ممتلكاتهم، وسوقهم إلى التجنيد الإجباري غير الشرعي لديها”؛ وهو انقلاب في الموقف، ويلتقي كلياً مع الموقف التركي من الجماعات الكردية، والذي لا بد أنه جاء بتوجيه وطلب روسي من النظام.
وبالتالي تفضل روسيا دعم الطرف التركي بغرض تشكيل ضغوط على واشنطن، أي هي تستثمر في الخلاف الأميركي التركي حول ترتيبات المنطقة الحدودية؛ حيث ترى موسكو أن أنقرة باتت طرفاً ضعيفاً في سوريا، ومن الممكن التوصل إلى صيغ تفاهم معها تمكن روسيا من عبور الفرات شرقاً، بعد الانسحاب الأميركي، والاستفادة من ثروات المنطقة. لكن الدعم الروسي للموقف التركي لم يصل إلى حدّ القبول بأن يكون الشريط الحدودي مع تركيا بطول 450 كيلومتراً، من نهر الفرات إلى فيشخابور، هو منطقة نفوذ لأنقرة على غرار عفرين وجرابلس، أو أن تجري فيها تركيا تغييرات ديموغرافية بحجة إعادة اللاجئين من تركيا وأوروبا.
وما زالت التصريحات الروسية والإيرانية حول شرق الفرات تقول بالعودة إلى اتفاق أضنة لعام 1998، والذي يسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية بعمق 5 كيلومترات فقط.
أما طهران، التي تعاني من ضغوط دولية وإقليمية كبيرة، خاصة بالتزامن مع حادثة الاعتداء على منشآت “أرامكو” السعودية في 14 الشهر الجاري، فهي حريصة على بقاء الحلف الثلاثي قويا، ومهتمة بأن يكون موجها أكثر ضد واشنطن، وقد سعى روحاني إلى ضمان أن تعقد قمة الدول الضامنة القادمة في طهران.
إذا كانت تركيا قد تمكنت من جعل قمة أنقرة أرضية دعم لموقفها شرق الفرات، فإنها عجزت عن تحقيق تقدم في الملفات الأخرى؛ فملف العملية السياسية يراوح مكانه، عدا عن إنجاز هزيل يتعلق باكتمال القائمة النهائية للجنة الدستورية بعد موافقة تركيا على شخصية مغمورة ممثلة للعشائر رشحها النظام، ودون تحديد موعد انعقاد هذه اللجنة، أو التوصل إلى قواعد عملها، وترك هذه المهمة لجولة بيدرسون القادمة، ومساعيه خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في النصف الثاني من الشهر الحالي، حيث ستعقد على هامشها اجتماعات وزراء خارجية دول “المجموعة الصغيرة” الخاصة بسوريا.
في حين أن هدنة إدلب مستمرة، رغم أن خروقاتها من قبل روسيا والنظام مستمرة أيضاً، مع اتفاق على فتح الطرق الدولية، وتسيير دوريات تركية- روسية مشتركة، في حين تعهدت إيران بعدم مشاركة ميليشياتها في الهجوم على إدلب حالياً.
لكن هذه الهدنة هشة بالنسبة للروس، فرغم تراجع قوة الموقف التركي، وقبوله باحتفاظ النظام بالمناطق التي سيطر عليها، لكن موسكو مستعدة لاستكمال الهجوم على إدلب باسم محاربة المجموعات الإرهابية، وبالتالي هي قادرة على تشكيل ضغوط على أنقرة، والتي تقع على عاتقها مهمّة حلّ هيئة تحرير الشام، وإحلال الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني المعارض محل حكومة الإنقاذ التابعة للهيئة، والتفرغ لتنسيق أعلى مع الروس، وربما بمشاركة التحالف الدولي لإنهاء التنظيمات الجهادية المتشدّدة.
فيما تسعى أنقرة إلى إقناع حليفيها بخطتها لإعادة 3.5 ملايين سوري في تركيا وأوروبا، عبر إقامة منطقة أمنية على كامل الحدود السورية بطول 911 كيلومترا، ما يعني الاعتراف بضم لواء الإسكندرون، وأن يتم إقناع المنظمات الإنسانية الدولية، بتقديم الدعم لإعمار شريط حدودي بعرض يتراوح بين 5 و30 كيلومتراً، ويبدو أن الرئيس التركي يسعى للحصول على دعم أوروبي وعربي، إضافة لتأييد حليفيه في أستانة، لخطته هذه، والتي يريد حملها إلى القمة الرباعية، التركية الروسية الفرنسية الألمانية، في فرنسا بعد أسابيع.
وإذا كانت نية تركيا إجراء تغيير ديموغرافي على حدودها مع سوريا، خاصة في المدن والبلدات ذات الغالبية الكردية، ما يبدد المطالب الانفصالية الكردية، فإن الأطراف الأوروبية وكذلك الولايات المتحدة ما زالت ترفض هذا المسعى، وتنظر لقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية، كحليفين محليين، وما زالت تقدم الدعم لهما لمنع عودة تنظيم داعش إلى المنطقة.
تركيا تهدد الولايات المتحدة بشن هجوم شرق الفرات، وإقامة المنطقة الأمنية بمفردها، إذا لم تقبل واشنطن شروطها، وقد أعطى الرئيس أردوغان مهلة حتى نهاية الشهر، وما زالت تهديداته تعلو رغم عدم واقعيتها، لكنه يراهن على لقائه المرتقب مع الرئيس دونالد ترامب، لحثّ البنتاغون على التساهل أكثر مع الشروط التركية.
رانيا مصطفى – كاتبة سورية – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتبة والصحيفة