قبل أن يصل “الربيع” المزيف إلى سوريا راهنت أصدقاء على أن سوريا لن يسقطها “الربيع” المفترض لسبب واحد هو تنوع النسيج السوري.. لقد تعلم السوريون عبر التاريخ العيش مع الآخر.
ضحايا مؤامرة “الربيع العربي”
عند الحديث عن عودة اللاجئين السوريين إلى منازلهم يتم التركيز على البنية التحتية. قد يكون هذا جزءا من المشكلة. ولكن الجزء الأكبر يتعلق بالمصالحة، وهو مبعث قلق السوريين خاصة اللاجئين منهم.
حديث وزير الخارجية السوري فيصل المقداد مؤخرا مع نظيره الأردني أيمن الصفدي لم يكن مطمئنا بما يكفي، رغم طابعه الدبلوماسي الهادئ.
ما قاله المقداد من إن “لكل سوري الحق في العودة إلى بلده وسيتم التعامل معه في إطار القانون والسيادة، ولا يوجد في سوريا من دفع دفعا من قبل الدولة ليترك وطنه” يحمل الكثير من التأويلات، وهذا بالتأكيد لن يشجع اللاجئين على حزم حقائبهم.
• ما من بلد في العالم تعرض للغزو والمؤامرات كما تعرضت سوريا وكانت دائما تخرج منتصرة ليس بفضل قوتها العسكرية ولكن بفضل التسامح الذي يجري في عروق أبنائها
عند النظر إلى مشكلة اللاجئين السوريين يجب عدم وضعهم في سلة واحدة؛ هناك من بين اللاجئين من أعلن وقوفه في صف المعارضة للحكومة السورية منذ اليوم الأول. هؤلاء بغض النظر عن صواب موقفهم أو خطئه، ترتبط عودتهم إلى سوريا بالتوصل إلى حل ترعاه وتشارك فيه مختلف الأطراف، وهم في الغالب لا يستعجلون مثل هذا الحل. ليسوا بوضع إنساني صعب، وبالتالي ليسوا على عجلة من أمرهم.
وهناك من حالفه الحظ واستقر في دول اللجوء، سواء دول الجوار أو الدول الأوروبية، واستطاع أن يضمن حياته وحياة عائلته، وأن ينخرط في سوق العمل، ومنهم من نجح في تكوين ثروة ولو بسيطة، ومعظمهم لا ينشغل بالسياسة، وكل ما يريده هو أن يعود الاستقرار إلى سوريا، بغض النظر عن طبيعة الحكومة فيها.
وهناك أيضاً، ضحايا الاقتتال الذين وجدوا أنفسهم وسط أطراف متصارعة، وهربوا خوفا على حياتهم وحياة أطفالهم، وانتهى المطاف بهم في مخيمات بدول الجوار ينتظرون مساعدات إنسانية ويعيشون في ظروف صعبة للغاية.
وهناك بين اللاجئين من نزح من منزله، واستقر إما في شمال شرق سوريا، أو شمال غربها، ليجد نفسه رهينة قوى تريد أن تتاجر بمعاناته.
لا يمكن النظر إلى اللاجئين السوريين نظرة واحدة. كنت أتمنى لو اكتفى المقداد بعبارة “لكل سوري الحق في العودة إلى بلده”. وبدلا من المتابعة والقول “سيتم التعامل معه (اللاجئ) في إطار القانون والسيادة”، كنت أنتظر أن يختم كلامه بـ”عفا الله عما سلف”.
بحسابات بسيطة يمكن الوصول إلى تحديد عدد السوريين الذين يقيمون في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، وعدد اللاجئين وهؤلاء الذين يقيمون في مناطق خارج سيطرة الحكومة. العدد هو: 8 ملايين داخل مناطق سيطرة الحكومة، و8 ملايين خارج مناطق سيطرتها وفي دول اللجوء.
هناك أمر آخر يجب ألا يغيب عن الأذهان وهو أن معاناة السوريين داخل سوريا لا تقل عن معاناة اللاجئين في دول الجوار، إن لم تكن في حقيقة الأمر أسوأ. وهذا بسبب قوانين العقوبات الجائرة التي يفرضها الغرب على سوريا ويدفع ثمنها الشعب السوري.
• عودة سوريا إلى الجامعة العربية وكذلك أيضا عودة السفارات إلى دمشق، خطوة اتخذتها الدول العربية المؤثرة لتصفير المشاكل في المنطقة
لمعرفة حجم معاناة السوريين يكفي أن نعرف أن متوسط ما يتقاضاه العامل في سوريا شهريا هو 149 ألف ليرة سورية، في بلد يصل فيه سعر كيلو لحم الخروف إلى ما بين 50 و60 ألف ليرة سورية، أي أن راتب العامل يكفي لشراء 3 كيلو لحم في أفضل الأحوال.
لنترك اللحم، فهو “مضر بالصحة”، كما يحاولون إقناعنا، ونتحدث عن رغيف الخبز حيث وصل السعر إلى 3000 ليرة سورية (نصف دولار) لربطة تضم 7 أرغفة تكفي لشخصين يومياً. فيما زاد سعرها إلى ضعف هذا الرقم في السوق السوداء، بينما لا يزال متوسط الأجور لا يتجاوز 20 دولارا شهرياً، وفق أسعار الصرف الحالية.
في وضع مثل هذا الأفضل عدم التشبث بالحديث عن “القانون” وعن “السيادة”. العفو والمصالحة هما القانون الوحيد الذي يجب أن تلتزم به جميع الأطراف.
إذا كان ما حدث في سوريا مؤامرة، وهذا ما أعتقد به شخصيا، فإن الشعب السوري جميعه ضحية لتلك المؤامرة وضحية للتضليل الإعلامي، سواء من بقي فيها أو غادرها، أو انتقل من مكان إلى آخر داخل التراب السوري بحثا عن الأمان.
غادرت سوريا بداية الثمانينات وتنقلت بين دول مختلفة ثم عدت إليها في زيارة عام 2010، قبل “المؤامرة” بقليل، أذهلني التطور الحاصل فيها. لا شيء يوحي بحصول ما حصل. كل ما فيها يغري بالعودة، حتى ولو كان ذلك بعد ثلاثين عاما.
غادرت دمشق وأنا أفكر بالعودة. لكن، حصل ما لم يكن متوقعا، وقعت سوريا ووقع أهلها ضحية لمؤامرة “الربيع العربي”.
قبل أن يصل “الربيع” المزيف إلى سوريا راهنت أصدقاء سوريين وعربا على أن سوريا لن يسقطها “الربيع” المفترض. كنت واثقا مما أقول، لسبب واحد هو تنوع النسيج السوري. لقد تعلم السوريون عبر التاريخ العيش مع الآخر.
قبل مغادرتي سوريا بداية الثمانينات كنت أعيش في دمشق، في منطقة تسمى “باب شرقي”، بين “باب توما” و”حيّ الأمين”، وهي منطقة صغيرة يتجاور فيها المسيحيون والسنة والشيعة واليهود والدروز والأرمن.. وأقليات أخرى لا أعلم لها عددا.
• عند النظر إلى مشكلة اللاجئين السوريين يجب عدم وضعهم في سلة واحدة؛ هناك من بين اللاجئين من أعلن وقوفه في صف المعارضة للحكومة السورية منذ اليوم الأول
عندما زرت سوريا عام 2010 عدت إلى نفس الحي، وإلى نفس المكان. كان أجمل مما تركته وأكثر حميمية. كان يوتوبيا للتنوع والتعايش. احتفى بي أصدقاء لم أقابل معظمهم خلال ثلاثين عاما. جلسنا في حانة ملتصقة بكنيسة، ويقابلهما مسجد. تركيبة لا يمكن مشاهدتها إلا في سوريا.
لهذا كنت واثقا من رهاني، سوريا التي تعلم أهلها العيش سوية، لا يمكن أن تسقطهم مؤامرة.
دفع السوريون ثمنا باهظا، تشردوا وجاعوا، ولكن لم تسقطهم المؤامرة.
تحدث الجميع عن بلد تحكمه الأقلية. وهذا كلام لا يصدر إلا عن شخص يجهل سوريا؛ سوريا بلد الأقليات فيها هي الأكثرية. هكذا كانت، وهكذا ستبقى.
عودة سوريا إلى الجامعة العربية وكذلك أيضا عودة السفارات إلى دمشق، خطوة اتخذتها الدول العربية المؤثرة لتصفير المشاكل في المنطقة، بعد أن أدركت أنها كانت ضحية لمؤامرة.
ما من بلد في العالم تعرض للغزو والمؤامرات كما تعرضت سوريا، وكانت دائما تخرج منتصرة، ليس بفضل قوتها العسكرية، ولكن بفضل التسامح الذي يجري في عروق أبنائها.
المصالحة، هي الكلمة السحرية التي كنت أنتظر سماعها من وزير الخارجية السوري المقداد. في سوريا متسع للجميع.
علي قاسم – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة