في لغة السياسة انتصار أي حكومة يتحقق في القدرة على عدم الانجرار إلى مستنقع حرب كارثية بين أبناء الشعب الواحد، فهي أصعب من المواجهة العسكرية وعادة ما تكون مسعى الميليشيات.
اتهامات مباشرة للميليشيات
التأمل في ردّات الفعل العنيفة وغير العقلانية للميليشيات العراقية الموالية لإيران من خلال القيام بعمليات عسكرية غير منضبطة، ومحاولتها توسعة الاعتداءات العسكرية على القوات الأميركية لتصل إلى إقليم كردستان بعد أن كان الأمر مقتصرا على جنوب العراق، تعطي الانطباع بأن الإجراءات التي يقوم بها رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، تسير في الاتجاه المخطط لها، والتي ترغب فيها كل دول العالم بما فيها إيران ولو على استحياء، وهو إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية.
فإذا كانت اللغة التي يستخدمها قادة ميليشيات الحشد ومنهم أبوآلاء الولائي قبل يومين، والتي يوضح فيها نيّة الميليشيات الاستمرار في تهديد استقرار المنطقة من خلال استهداف القوات الأميركية، تبيّن طبيعة العقلية التي تفكر فيها، فإنها أيضا تشير إلى “حالة التضخم” المعنوي التي وصلت إليها هذه الميليشيات. بل إنها صارت خارج “جلباب” إيران نفسها، على اعتبار أن تلك العمليات التي حدثت مؤخرا كسّرت الهدنة بين الحكومة العراقية وطهران التي تمت على خلفية الإفراج عن قاسم مصلح.
هناك زيارتان سرّيتان مهمتان قام بهما مسؤولان إيرانيان إلى بغداد للسيطرة على الميليشيات. الزيارة الأولى قام بها وزير الخارجية محمد جواد ظريف. والأخرى كانت لرئيس المخابرات في الحرس الثوري حسين طائب جاءتا لفرض السيطرة على حالة انفلات الميليشيات.
الغباء السياسي للميليشيات تسبب في تدميرها والقضاء عليها، فإلى جانب أنها “أذرع” تستعين إيران بخدماتها، فإن أهم نقطة في الخدمة التي تقدمها هي عدم الخروج على الخط المرسوم لها
بين رؤية دول العالم لدور الميليشيات العراقية التي لها ارتباطاتها خارج الحدود ولمكانة العراق الإقليمية وتفاعلاتها الدولية في مختلف المجالات، وبين الإجراءات التي يقوم بها الكاظمي لإعادة تأهيل مفاصل الدولة العراقية، من حيث التشريع ومن حيث الحرص على قيام كل مؤسسة بدورها حسب الاختصاص، والعمل على خلق مؤسسات وكيانات إدارية تمكن باقي الدول والمنظمات من التفاهم معها حرصا على المصالح المشتركة، فإني أصنّف نفسي بين هؤلاء الذين يرون أن هناك أملا بما يقوم به الكاظمي، وأن هناك مجالا واسعا للتفاؤل خصوصا وأن إيران الداعم الرئيسي لهذه الميليشيات لا ترغب في بعض هذه العمليات، على الأقل في توقيت معين، لأنها تعمل، دون قصد، على تخريب مخططات إيران الدبلوماسية وتفاهماتها مع الغرب.
الغباء السياسي لهذه الميليشيات ولقادتها تسبب في تدميرها والقضاء عليها، فهي إلى جانب أنها في الأصل “أذرع” ومرتزقة تستعين إيران بخدماتها، فإن أهم نقطة في الخدمة التي تقدمها هي عدم الخروج على الخط المرسوم لها، وأكبر الأخطاء عدم تقدير الوقت المناسب للعمليات.
إيران حاليا تخوض الجولة السابعة من المفاوضات مع الولايات المتحدة في جنيف وهناك حديث عن تفاهمات سياسية إقليمية، وبالتالي فالتهدئة حاليا مطلب أساسي لها إلى أن تتضح الرؤيا.
يفترض أن قادة إيران قد أدركوا حجم معاناة الاعتماد على الميليشيات، فهي تبدأ صغيرة ومطيعة وفي لحظة ما تتضخم وتكبر إعلاميا وعسكريا، ويعتقد قادتها أنهم أقوياء فيبدأون في الخروج عن السيطرة لأنهم يفكرون بطريقة عصابات المافيا، لا يدركون أنهم في ذلك بداية نهايتهم. فدورهم الأصلي وقتي، تكتيكي ينتهي مع تحقيق “الراعي الرسمي” مصلحته.
بالنظر إلى نتائج ما يقوم به الكاظمي منذ تقلّده رئاسة الحكومة نجد أنه استطاع أن يجمع العديد من النقاط التي تحصر الميليشيات في زاوية تهدد مستقبلها السياسي
في لغة السياسة، الانتصار لأي حكومة يتحقق في القدرة على عدم الانجرار إلى مستنقع حرب كارثية بين أبناء الشعب الواحد، فهي أصعب من المواجهة العسكرية، وعادة ما تكون مسعى الميليشيات. وبالنظر إلى نتائج ما يقوم به الكاظمي منذ تقلّده رئاسة الحكومة نجد أنه استطاع أن يجمع العديد من النقاط التي تحصر الميليشيات في زاوية تهدد مستقبلها السياسي.
انتهز الكاظمي تحوّلين مهمين في الساحة العالمية دفعا للاعتقاد بأن الميليشيات في العراق تسير نحو الهاوية. التحول الأول، وهو الأهم، تقليل الاعتماد على إيران سياسيا واقتصاديا. والتحول الثاني، التركيز على إعادة تأهيل مؤسسات الدولة. فالمؤسسات هي الأبقى أما المرتزقة الذين تمثلهم الميليشيات في عصرنا الحاضر فمصيرهم الزوال.
محمد خلفان الصوافي – كاتب إماراتي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة