وضع عراقيو الحكم أيديهم على قلوبهم وهم يرون التحركات العسكرية الأميركية. قيل إن هناك شيئا ما سيقع، من شأنه أن يقلب المعادلات السياسية رأساً على عقب. ولأنهم لا يصلحون للعمل السياسي فقد تمكن منهم الخوف وصاروا يعدون أنفسهم لمواجهة نهاية لطالما فكروا فيها.
ولكن مَن يصدق كل هذا الهلع فإنه واحد من اثنين. إما أن يكون طارئا على العمل السياسي ودخل إليه بسبب ما يجلبه من حماية لمكتسباته غير الشرعية، وإما أن يكون جاهلا بالمشروع الأميركي في المنطقة القائم على دعم أحزاب وتنظيمات الإسلام السياسي بكل أذرعها العسكرية ومنها الميليشيات التابعة لإيران.
لا يوجد سياسي واحد في العراق يجرؤ على استعمال مصطلح الوطنية في حديثه العام أو الخاص. فهو من المصطلحات المحظورة التي لو استعملها المرء لاتّهم بولائه للنظام السابق
عراقيو الحكم في العراق هم الاثنان معا. ليست السياسة بالنسبة إليهم سوى المركب الذي يحمل مصالحهم وهم يعترفون أن زعماء الأحزاب هم أولياء نعمتهم. في الوقت نفسه فإنهم لا يملكون الوعي الكافي الذي يؤهلهم لفهم إستراتيجية الولايات المتحدة الهادفة بشكل أساس إلى تجهيز غطاء حماية مستقبلي لإسرائيل.
ما يحدث في العراق الآن وفي المستقبل هو مجرد تفاصيل للقرار الأميركي القاضي بإبقاء العراق بلدا ضعيفا، قابلا للتفكك في أيّ لحظة ولا يملك سكانه أيّ قدرة على توجيه إرادتهم في بنائه. دولة مهلهلة ورثّة وفاشلة في تصريف شؤون مواطنيها وخدمتهم والحفاظ على أمنهم واستقرارهم ودفع شبح الفقر عنهم مقابل ثروة وضعت في قبضة طبقة سياسية فاسدة لا يهمها شيء بقدر ما يهمها نهب أكبر كمية من المال وتهريبها خارج العراق.
لا يوجد سياسي واحد في العراق يجرؤ على استعمال مصطلح الوطنية في حديثه العام أو الخاص. فهو من المصطلحات المحظورة التي لو استعملها المرء لاتّهم بولائه للنظام السابق. ذلك اعتراف علني بأن النظام السابق الذي تم إسقاطه عن طريق الغزو الأميركي كان وطنيا. صارت الوطنية تُخيف في العراق وهو البلد الذي كان يدرّس “التربية الوطنية” في مدارسه.
عودة إلى المشروع العسكري الجديد في المنطقة فإنه لن يكون إلا محاولة لتحجيم التمدّدين الصيني والروسي معا في مجال حيوي يعتبره الأميركان جزءا من حصتهم في العالم، وهي حصة صنعت من مصير الشعوب بضاعة رخيصة يمكن التخلي عنها في أيّ وقت. فالعراق الجديد الذي هو صناعة أميركية التهمته إيران من غير أن تبدي الولايات المتحدة بكل إداراتها السياسية المختلفة أيّ اعتراض.
ذلك ما يضع العداء الأميركي لإيران الملالي موضع شك. ففي سياق المشروع الأميركي الهادف إلى صناعة مستقبل آمن لإسرائيل تمثل إيران صمام أمان وهي تقود العراق ولبنان واليمن وشيئا من سوريا إلى هاوية التخلف والانحطاط. إيران مفيدة للولايات المتحدة وهي تحاول اللحاق بالصين لكن بأسلحة غبية، سيكون على العالم أن يضحك منها. فهي أسلحة لا تنتمي إلى عصرنا الذي صممت الولايات المتحدة جزءا من أسلحته الذكية.
يتحدث الأميركان عن قطع الطريق التي تصل بين إيران ولبنان، وتلك واحدة من أعظم أكاذيبهم. كان العراق ولا يزال في أيديهم فما الذي فعلوه لينهوا إمدادات السلاح التي تصل إلى حزب الله
لا يصدق أحد أن كل ذلك الضجيج هو من أجل أن تملأ الولايات المتحدة وهي قوة عظمى فراغا في سوريا أو تحمي قاعدة عسكرية لها على الحدود العراقية. هل صارت القوة أكثر عمى مما كانت عليه من قبل؟ لن يتمكن الأميركان من إحداث تغيير في المعادلات الاقتصادية التي صنعتها الصين في المنطقة. كما أنهم لن يدخلوا إلى مناطق النفوذ الروسي. ناهيك عن أنهم لا يرغبون في إزاحة حزب الله والميليشيات الإيرانية من مناطق سيطرتها في سوريا. ما هذا الخيال الفارغ من أيّ محتوى؟ الجنون الأميركي في أسوأ أحواله. “جعجعة بلا طحن أو كثير من اللغط حول لا شيء” هو عنوان إحدى مسرحيات وليام شكسبير. ولكنه مثل معروف في البلاد العربية وإن جاء بصيغ لغوية مختلفة.
يتحدث الأميركان عن قطع الطريق التي تصل بين إيران ولبنان، وتلك واحدة من أعظم أكاذيبهم. كان العراق ولا يزال في أيديهم فما الذي فعلوه لينهوا إمدادات السلاح التي تصل برا إلى حزب الله. يمكننا أن نصدق إسرائيل وهي تقصف قوافل ومعسكرات ومخازن في سوريا هي في حقيقتها جزء من لعبة تصدير السلاح إلى لبنان. لكن أن تقوم القوات الأميركية بحماية ميليشيا كردية فذلك لن يغير شيئا من مصير سوريا وهو لا يستحق كل تلك الجعجعة.
أما الحديث عن مراقبة الموانئ الإيرانية فإنه لا يحتاج إلى تحريك أسطول بحري ضخم يتطلب نفقات هائلة. وما تفسير ذلك إلا من خلال العودة إلى فائض القوة الغبية التي غزت الولايات المتحدة بها العراق ودمرت مستقبله.
فاروق يوسف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة