الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر 2023 لم يعد كما كان قبله، ومن يتشكك في ذلك عليه أن يتابع ما يدور في كل ساحات النقاش العامة عبر وسائل الإعلام الاجتماعي.
صراعات يدفع ثمنها الجميع
ليس سرًّا أن هناك سباقا زمنيًّا كان يدور منذ سنوات بين الدول العربية الساعية إلى السلام والأمن والاستقرار من جهة وما يعرف بـ“محور المقاومة” الذي تقوده إيران لتثوير المنطقة واستمرار موجات العنف وسفك الدماء تحت عناوين مختلفة، وحيث تقع القضية الفلسطينية في قلب أجندة هذا المحور الذي يوفر لإيران ووكلائها الغطاء الذي يحتاجونه كلما لاحت الفرصة لإعادة الأمور إلى المربع الأول.
بموضوعية نقول إن الأمر لا يتعلق بإيران وأذرعها الإرهابية فقط، فهناك تنظيمات إرهابية أيديولوجية متطرفة كتنظيم الإخوان المسلمين، وهي جميعها تسعى إلى تقويض الاستقرار والدفع باتجاه إشعال الصراعات والحروب بدعاوى وحجج مختلفة، كما أن هناك أيضا خطابا إعلاميّا يغذي العنف ويحض على الكراهية ويمارس الشحن النفسي والمعنوي ليل نهار. وهو ما يجعلنا دائما نطالب بتضافر الجهود الإقليمية والدولية للقضاء عليها.
حتماً سينتهي الصراع في غزة، شأنه شأن كل الصراعات العسكرية الدموية التي شهدها التاريخ، ولكن يبقى الثمن والكلفة البشرية والمادية لهذا الصراع، وبعيدا عن حركة حماس ومصيرها الذي تصر إسرائيل على أن تضع له نهاية حتمية في هذه الجولة، فإن المؤكد أن الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر 2023 لم يعد كما كان قبله، ومن يتشكك في ذلك عليه أن يتابع ما يدور في كل ساحات النقاش العامة سواء عبر وسائل الإعلام الاجتماعي أو من خلال المناخ العام السائد في المنطقة العربية التي تدفع ضريبة باهظة للإرهاب والعنف وسفك الدماء وكل ما يرتبط بهذه الظواهر من فقر وتدهور معيشي وفساد وانهيار للخدمات الصحية والتعليمية في مناطق ودول عربية عدة.
علينا أن نعترف بأن إشعال صراع جديد في غزة هو عودة لعقارب الساعة إلى الوراء، حيث نجحت الأجندة الإيرانية في إعادة مفردات ومفاهيم كانت قد اختفت، بدرجات متفاوتة ومن بلد إلى آخر، من قاموس التداول العربي على خلفية اتفاقات السلام التي عُقدت خلال السنوات والعقود الماضية، وكذلك جهود نشر ثقافة التعايش والتسامح، والدفع باتجاه التنمية والتبادلات الثقافية والتجارية والاقتصادية والتركيز على مصالح الشعوب بموازاة البحث عن مخارج وتسوية عادلة للقضية الفلسطينية.
◙ هناك أطراف إقليمية أخرى تدخل على خط الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتوظفه في تحقيق أهداف إستراتيجية خاصة بها، ولهذا يتحول الصراع إلى عناوين عريضة ضمن أجندة التنافس على النفوذ
من الصعب الآن بناء توقعات متماسكة حول إمكانية مضي قطار السلام في الشرق الأوسط بالوتيرة التي سبقت السابع من أكتوبر، وعلينا أن نفرق بين الآمال والحقائق في هذه المسألة؛ فالعقلاء في منطقتنا العربية، وبنفس القدر في إسرائيل، يتمنون طي صفحة هذا الصراع بأسرع وقت ممكن والبدء في لملمة آثاره وتداعياته الكارثية ومعالجة وترميم الجروح على الجانبين من أجل النظر إلى المستقبل، ولكن الواقع يقول إن من الصعب للغاية حدوث ذلك في وقت وجيز، لاسيما على المستوى الشعبي والوعي الجمعي للشعوب العربية والإسلامية، فربما تنجح المستويات الرسمية في استئناف قنوات الاتصال، ولكن ذلك لن يحول دون الشواهد التي تشير إلى أن التخطيط المسبق الذي نفذته حماس وبقية الأذرع الميليشياوية الإرهابية قد نسف أجواء وبيئة سلام ظل الكثيرون في منطقتنا يعملون عليها ويغرسون بذورها سنوات طويلة، بل إن هذه المرة تختلف عن سابقاتها لأن إيران زجت هذه المرة بأذرع جديدة في الصراع مثلما حدث من جانب الحوثي الإرهابي وتم تحويله إلى صراع ديني بامتياز، وتلك هي المسألة الخطيرة التي تنطوي على أبعاد لا يقدّر الكثيرون في منطقتنا العربية عواقبها المستقبلية على الآماد المختلفة.
ليس سرّا أن الصراعات الدينية أشد خطورة وتأثيرا ويدفع ثمنها الجميع ليس في منطقتنا فحسب بل في العالم أجمع، حيث تفتح الباب واسعا أمام دخول المتطرفين والإرهابيين من جميع الدول والمناطق إلى ساحات “الجهاد” المفتوحة من دون داع ومن دون تخطيط مسبق أو قيادة مركزية لهذه الصراعات الشيطانية، وإلى جانب عودة متوقعة لتنظيمات الإرهاب إلى الساحة، وربما ظهور جماعات وتنظيمات جديدة قد تكون أكثر دموية وأشد عنفاً من الأجيال الإرهابية التي نجح المجتمع الدولي في التصدي لها والحد من خطرها، تبرز بقوة ظاهرة “الذئاب المنفردة” التي يمكن أن تشكل مرحلة أو ردة فعل للشحن النفسي والمعنوي والإعلامي الهائل الذي تمارسه الكثير من الأطراف في منطقتنا والعالم.
معضلتنا، كعرب، أن هناك أطرافا إقليمية أخرى تدخل على خط الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتوظفه في تحقيق أهداف إستراتيجية خاصة بها، ولهذا يتحول الصراع إلى عناوين عريضة ضمن أجندة التنافس على النفوذ والهيمنة الإقليمية والدولية، ويدفع عشرات الآلاف من الضحايا حياتهم ثمنا لهذه الأغراض، كما تتفاقم أزمة اللاجئين الفلسطينيين لسنوات قادمة على أقل التقديرات، وتضيف إلى أزمات المنطقة العربية أزمة جديدة أشد وطأة وأكثر تأثيرا، ليصبح اللجوء والشتات والنزوح العنوان الأبرز في منطقتنا العربية من السودان إلى ليبيا وسوريا والأراضي الفلسطينية، وهي ظروف مثالية تصب في مصلحة تنظيمات الإرهاب والقوى الإقليمية والدولية الساعية إلى نشر الفوضى والاضطرابات في الشرق الأوسط في إطار صراع إستراتيجي على المكانة والنفوذ في النظام العالمي.
د.سالم الكتبي – كاتب إماراتي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة