كانت سنوات العقد الماضي ساحة تغييرات عاصفة في سوريا، والأمر في هذا الجانب لا يقتصر على ما حدث من صراعات سياسية وعسكرية كبرى، وخراب وتحولات في البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إنما امتدت التغييرات إلى العميق من عادات وتقاليد ومفاهيم، وأنماط العيش والتفكير والسلوك عند كثير من السوريين، ما أدى إلى تبدل في نظرة السوريين لأنفسهم ولما حولهم.
أحد أهم التغييرات طالت أنواع العمل العام عند السوريين، التي كانت مرسومة حسب تسلسلها وأهميتها في 3 أنواع. أولها العمل الرسمي وهو الأكثر فاعلية وشيوعاً، وشكله الأساسي مكرس في الوظيفة العامة في مؤسسات وهياكل الدولة في كل تخصصاتها وأنشطتها، ويحصل العاملون فيه على رواتب ومكافآت ومزايا، ويخضعون لمسؤوليات وتراتبية تنظمها السلطة بموجب قوانين وأنظمة، ترسم ما يتوجب على مؤسسات السلطة وموظفيها القيام به من أعلى هرم السلطة إلى أصغر موظف فيها.
والنوع الثاني من العمل العام عند السوريين يمثله العمل الأهلي، والموصوف بأنه نشاط محدود مقارنة بسابقه، تقوم به فعاليات أهلية من البنى التقليدية وخاصة الاجتماعية والدينية عبر جمعيات وشخصيات محلية ذات مكانة مميزة، تتشارك أعمال تطوعية، هدفها تقديم خدمات لبعض الفئات الاجتماعية، والتركيز الأساسي في العمل الأهلي يتعلق بالمساعدة الاجتماعية عبر دعم أصحاب الحاجة من الفئات الفقيرة وخاصة في 3 مجالات، تشمل المساعدات المالية والعينية، الرعاية الصحية والتعليم، وبسبب من تغول السلطة ورغبتها في السيطرة على العمل الأهلي فقد قنّنته في أطر تخدم ربطه بالعمل الرسمي، وجعلت بعضاً منه مأجوراً وتراتبياً، وربطت القسم الأكبر منه بمؤسسات السلطة الموازية، فجعلته تابعاً لوزارات، منها الشؤون الاجتماعية والتربية والأوقاف، ووضعته تحت سيطرة الأجهزة الأمنية، ونظمت تدخلاتها في تفاصيله على نحو ما تفعل الدولة العميقة.
وثالث أنواع العمل العام، كان العمل المدني، وقد ولدت أشكاله الجنينية قبيل الاستقلال في أربعينات القرن العشرين، واختلط مفهومه بمفهوم العمل الأهلي، وبسبب من تغول السلطة ورغبتها في إحكام قبضتها على المجتمع، جرى فرض الحصار على بدايات العمل المدني، وتم إغلاق بعضها أو تم تدجينه من الناحيتين القانونية والإدارية، وتم وضعه تحت سيطرة الأجهزة الأمنية، وخسرت سوريا على مدار عقود من السنوات نوعاً من العمل العام، يمثل نهجاً وطريقة حديثة لمساعدة الدولة والمجتمع عبر تطوع مواطنين في الخدمة العامة على نحو ما يحصل في الدول المتقدمة، التي توفر بيئة عامة تدعم العمل المدني، وتسنّ قوانين تنظم جماعاته ومجالات عملها، وتحفظ حق المواطنين في المبادرة واختيار ميادين ومستويات العمل الذي يرغبون القيام بها، وتقدم كل المساعدات اللازمة.
وسجلت فترة ربيع دمشق بعد العام 2000 صعوداً لفكرة العمل المدني باعتباره نشاطاً مستقلاً، يشارك السوريون من خلاله في إدارة وتطوير جوانب مختلفة من حياتهم، ظهر في تأسيس وإطلاق منتديات ثقافية وسياسية وجمعيات مدنية حقوقية وبيئية وجمعيات تساند قضايا المرأة، ورغم أن هذا التحول قوبل برفض ومقاومة عنيفة من جانب النظام، فإنه أسس لما صار اليوم شائعاً في الواقع السوري من عمل مدني، أبرز تعبيراته تشكيل آلاف من جماعات ومنظمات ناشطة في عشرات الاختصاصات في مختلف أنحاء سوريا وصولاً إلى كثير من أماكن انتشار السوريين في العالم.
ولم يكن صعود وانتشار العمل المدني بصورته الراهنة منفصلاً عما شهدته سوريا من صراعات القوة في تجلياتها المختلفة، التي بدأت مع ثورة السوريين عام 2011، وما زالت مستمرة، وقد عمل النظام لإعادة السيطرة على السوريين عبر استخدام القوة المفرطة إلى أقصى حدودها، لكنهم رفضوا الخضوع، ما أدى إلى إلحاق أفدح الأضرار بالشعب ومؤسسات النظام والدولة والمجتمع، وتغير كثير في الصورة السورية ومحتوياتها.
كان الأبرز في التغييرات تبدلات أصابت أنواع العمل العام، وغيرت بنيتها ومكانتها وتأثيرها في المجال العام.، ففي وقت واحد اهتزت بنية العمل الرسمي، وتراجعت في أدائها نتيجة الانشقاقات التي أصابتها، وخروج عاملين كثيرين منها إلى ميدان العمل العام الأهلي والمدني، اللذين زالت قيود النظام عنهما بسبب انحسار نفوذه عن مناطق واسعة من البلاد، وانتشار السوريين الواسع في العالم، وما رافقهما من أجواء حرية، توافقت مع رغبة السوريين في التعبير عن أنفسهم بالقول والفعل المختلف عما اعتادوا عليه في ظل نظام الأسد.
وبدا من الطبيعي أن يكون التطور ملتبساً نتيجة عوامل كثيرة، من بينها الوقت الطويل الذي عاشه السوريون تحت نظام ديكتاتوري – دموي، ومحدودية معارف وخبرات السوريين عن العمل المدني الذي أساسه وجود الدولة الحديثة، القائمة على دستور وقانون ومواطنة تربط الحقوق والواجبات، وتعتمد التطوع طريقاً في خدمة المواطنين، وهذا بعض ما أدى إلى تشوهات وأمراض في التجربة، سواء في أشكالها وفي محتوياتها ونتائجها، وكله لا يمنع من قول إن فورة العمل المدني تملك من الإيجابيات الشيء الذي يمكنها مستقبلاً من تجاوز السلبيات، إذا تم التوقف عندها ومعالجتها بصورة حقيقية.
إن الإشارة السريعة إلى ما لحق العمل المدني من مشكلات وتشوهات أمر ضروري لعلاجها، وفي القائمة نقاط، منها أن التجربة تمخضت عن عدد هائل من الجمعيات، وأحياناً في تخصص واحد أو في تخصصات متشابهة، وأن الجمعيات ارتبطت بأشخاص أكثر من كونها مؤسسات لها إدارة، وظهر ضعف في تكوين قدرات وخبرات كوادر الجمعيات، وتحولت بعض الجمعيات إلى «جمعيات عائلية» أو «جمعيات شللية» تجمع أصدقاء ومعارف، وارتبطت بعض الجمعيات بقوى وجماعات سياسية أو مع سلطات الأمر الواقع في مناطق نشاطها، ووظفت وجودها ونشاطها في خدمة أطراف هم خارج حدود اهتماماتها وأهدافها.
وخاتمة القول، إن ما سبق لا يدعو إلى التنازل عن العمل المدني أو إهماله، بل تقويمه ومعالجة مشكلاته وتشوهاته في ظل حقائق، أهمها أن العمل المدني ضروري في حياة السوريين حالياً وفي المستقبل، ويمكن أن يكون مسار العمل الوحيد الذي يخدم كل السوريين، وبالتالي فإنه أحد مؤشرات تضامن السوريين ووحدتهم، والأمر الثاني أنه سوف يلعب دوراً مهماً في مرحلة إعادة إعمار سوريا المقبلة، ليس في استكمال ما ينقص في عملية البناء فقط، بل في إشاعة مستوى عالٍ من المسؤولية وتضامن السوريين وتكريس التطوع نمطاً فاعلاً في العمل العام، وما سبق لا يمثل تمنيات، بل تقديرات تستند إلى تجارب شهدتها بلدان أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها ما حصل في ألمانيا وبريطانيا على وجه الخصوص.
فايز سارة – كاتب وصحفي سوري – عن صحيفة الشرق الأوسط
المقابلة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة