إذا كان التوجّه الأميركي من خلال دعوة العراق إلى أعمال القمة هو إعطاء جرعة إنعاش للديمقراطية المتعثرة في غير بلد عربي، المأمول أن هذه الجرعة لم تأتِ متأخرة في الزمان والفعالية.
تجربة أميركية فاشلة في العراق
ما طبيعة التحدّيات التي تمر بها مجتمعات أسّست بين جنباتها نوعاً من الحياة الديمقراطية جاء على درجات متفاوتة من الممارسة لمبدأ سياسي واجتماعي يرتبط مباشرة بحقوق الإنسان؟ وهل غياب الثقة في الحكومات المتعاقبة على المجتمعات حديثة العهد بالديمقراطية، بل وفشل تلك الحكومات في تحقيق تقدّم سياسي واقتصادي شفاف وعادل ومستدام، قد أدّى إلى تأجيج الاستقطاب الداخلي وصعود قيادات إلى الواجهة السياسية كانت الأشرس في تقويض أعراف ومؤسسات الديمقراطية؟
من نافلة القول إن هذه النماذج القيادية السالبة والمضادة لأي فعل ديمقراطي ممكن في حياة مجتمعاتها، ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث العدد الأكبر من الدول العربية قد خضع لتجارب متفاوتة في النوع والممارسة من الانتقال الديمقراطي، قد فشل أغلبها في تحقيق حيّز يسير من أحلام الجيل المنشودة في إعلاء الحريات وإقامة دولة القانون وردع الفساد وتحقيق المساواة المجتمعية.
وفي ظل هذا التردي المشهود في مآلات الدول التي خرج أهلها في ما دُعي “الربيع العربي” مطالبين بإسقاط الأنظمة الأوليغاركية وإعادة البناء في مؤسسات مدنية ديمقراطية تقوم على خدمة الناس، وليس على ترهيبهم وقمعهم، لم تكن النتيجة صفرية وحسب، بل هي أدخلت مجتمعاتها في عاصفة من فوضى الاستقواء بالسلاح المنفلت وغلبة الانعزال والتطرّف وانتشار الميليشيات الخارجة على القانون المصنّفة أغلبها على قوائم الإرهاب الأممية والأميركية.
الرئيس الأميركي جو بايدن الذي وصل إلى البيت الأبيض بدفع قوي من شعاراته البراقة في تعزيز الديمقراطيات في العالم ومحاربة أسباب انكفائها، دعا إلى أعمال قمة تحت عنوان “القمة من أجل الديمقراطية” من التاسع إلى الحادي عشر من ديسمبر 2021، على أن يتم إتباعها بقمة موازية بعد عام كامل من انطلاقها، لتقييم ما حققته من أهداف لجعل الديمقراطيات في العالم أكثر استجابة ومرونة في التعامل مع أسس الحوكمة ضمن معايير الشفافية والمساءلة، وتقدير مدى التزامها بآليات التجديد الديمقراطي.
في القمة الأولى التي ستُعقد اجتماعاتها افتراضياً الأسبوع الجاري، دعت الولايات المتحدة 110 دولة صنفتها على أنها دول تسير في ركب الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وكان للشرق الأوسط دعوتان لدولتين تعتبرهما واشنطن في مصاف الدول الديمقراطية وهما العراق وإسرائيل. وإذا تعرّفنا على محاور القمة الثلاثة وهي تعزيز الديمقراطية، ودعم مكافحة الفساد وتمكين حقوق الإنسان، فستكون لنا قراءة قد تكون مغايرة لقراءة واشنطن عن واقع الحال في كل من إسرائيل والعراق.
من يعاني من قصر في النظر السياسي ويصوّر العملية الانتخابية التي تجري في العراق منذ العام 2003 بأنها عملية ديمقراطية، فالأفضل له أن يتخلّى عن ممارسة السياسة وإلى الأبد
أما عن تجربة إحلال الديمقراطية في العراق فحدّث ولاحرج! المشروع الديمقراطي الأميركي للشرق الأوسط الذي انطلق من العراق مع رؤية جورج بوش الابن بأن دولاً ديمقراطية في المنطقة ستجلب السلام والاستقرار إلى محيطها والعالم، قد أصيب بسلسلة متعاقبة من الكبوات ثم الفشل. أسباب تلك النكسات التي منيت بها الديمقراطية الوليدة في العراق لا تخفى على أحد، وترجع إلى أن الولايات المتحدة عندما قررت توريد النظام الديمقراطي إلى العراق وإقامة حكم جديد ومتجدّد على أنقاض نظام صدام حسين، لم تقف عائقاً أمام المحاصصة الطائفية في التشكيل السياسي للدولة الوليدة، بل دعمت ذاك التوجّه منذ البدايات عوضاً عن المناداة بالتعددية السياسية وحكم القانون العام لا شرعة المذهب وحكم الطائفة.
فإسرائيل “الديمقراطية” ما تزال ماضية في بناء المستوطنات التي تقف معظم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ضد التوسّع في رقعتها والاستمرار في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية لبنائها، بمن فيهم الولايات المتحدة، وإن جاءت معارضتها للتوسع في المستوطنات أقرب إلى الشكلية؛ أما أصحاب الأرض الأصليون من الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم، فلا حول لهم ولا قوة ولا حقوق إنسان تحميهم من خساراتهم المتتالية لأراضٍ جديدة في الضفة الغربية والقدس الشرقية، الأمر الذي يعيق بشكل قاطع إقامة دولتهم إلى جانب دولة إسرائيل. والجدير بالذكر أن مشروع الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية اللتين سيعيش شعباهما جنباً إلى جنب، لم تختلف عليهما الإدارات الأميركية المتعاقبة إلا بتفاصيل تقنية بسيطة، وظل نموذج الدولتين في عمق رؤية الولايات المتحدة والعالم لتحقيق السلام والاستقرار المنشود في تلك الأرض الساخنة من العالم.
وإذا كان التوجّه الأميركي من خلال دعوة العراق إلى أعمال القمة هو إعطاء جرعة إنعاش للديمقراطية المتعثرة في غير بلد عربي، المأمول أن هذه الجرعة لم تأتِ متأخرة في الزمان والفعالية. فالاصطفافات المذهبية قد استقرت في جسم الدولة العراقية، بل تطاولت أذرعها المسلّحة دفاعاً عن تغوّل الطائفة على مجتمع بأسره، وحمايةً لأحزاب وهيئات ولاؤها ليس للعراق وأبنائه بل للولي الفقيه وملاليه في حوزات إيران.
أما من يعاني من قصر في النظر السياسي ويصوّر العملية الانتخابية التي تجري في العراق منذ العام 2003 بأنها عملية ديمقراطية، فالأفضل له أن يتخلّى عن ممارسة السياسة وإلى الأبد. فما يدور في بغداد منذ 17 عاماً ليس سوى محاصصات وتقاسم مناصب على قاعدة مذهبية؛ رئيس حكومة شيعي ورئيس برلمان سني، وأخرى قومية؛ رئيس دولة كردي. وفي كلتا الحالتين لن تكون الكفاءة والخبرة والعمل الوطني هي المعايير المتّبعة في تسمية أصحاب المناصب، بل تمضي الترشيحات ثم التعيينات بحيث يكون لكل مسؤول نائبان من غير طائفته، الأمر الذي أحال الدولة إلى رقعة شطرنج متقطعة السبل يتنافس على مساحتها السياسية أصحاب النفوذ الديني والعسكري حيث لكل طائفة أو مجموعة قومية ميليشياتها وكياناتها العسكرية الجاهزة للتدخّل السريع حين يستدعي الأمر.
في الأول من مايو عام 2006 نشر جو بايدن مقالاً في جريدة نيويورك تايمز العريقة كتبه بالشراكة مع ليزلي غليب بعنوان “الوحدة من خلال الحكم الذاتي في العراق”. اقترح الكاتبان من خلال المقال أن يتم تقليص السلطات في المركز بغداد لصالح منح صلاحيات واسعة لأقاليم ثلاثة تقوم على أسس مذهبية وقومية تتوزّع بين السنة والشيعة والكرد.
حتى تاريخ كتابة هذه السطور واقتراب موعد انعقاد قمة الديمقراطيات التي دعا إليها الرئيس بايدن، لم يظهر الأخير أي نفي لما خطّه في العام 2006 من أفكار لدولة العراق هي أبعد ما تكون عن دعم التحوّل الديمقراطي الصحي فيه بقدر ما شكّلت خارطة طريق لمشروع “طائف العراق” إثر طائف لبنان الذي كان سابقة في التقسيم المجتمعي الذي ينخر جسم الدولة العربية.
مرح البقاعي – كاتبة سورية أميركية – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة