تركيا تدرك أن إرثها العثماني لا يجعلها جزءاً من العالم العربي ولا يقدم لها بطاقة تعريف تسمح لها بالتغلغل في القضايا العربية بذريعة وحدة التاريخ والقيم كما يروج أبواقها.
بات واضحا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعيد النظر في السياسة الخارجية التي ينتهجها إزاء المنطقة العربية منذ سنوات عديدة. من المفيد طبعاً التمعن بالأسباب التي تدفعه إلى هذه المراجعة، ولكن ما يفيدنا أكثر هو تقدير المكاسب التي قد تتحقق من خلالها، وتوقع المصائد والأفخاخ التي قد ينصبها “السلطان” لدول المنطقة وبخاصة مصر بين سطور “صحوته” و”نزعته” المفاجئة للسلم.
“الصحوة” التركية قصدت مصر، وهي البوابة الأوسع للعالم العربي اليوم لأسباب عديدة، معظمها صنع في القاهرة وبعضها أفرزته الظروف الدولية والإقليمية. وبقدر ما يتحقق من المصالحة بين الدولتين تقصر المسافة بين أنقرة والعواصم العربية عموما. كما يتقلص ذلك التوتر الذي يربك أردوغان في شرق المتوسط، ويجعله في مواجهة مباشرة مع شركائه في حلف الناتو وجيرانه في القارة الأوروبية.
للدول العربية أيضاً مكاسب كبيرة في المصالحة مع تركيا. فلا يمكن تجاهل حقيقة أنها قوة عسكرية عالمية، وعضو في حلف الناتو، ودولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وفرد من مجموعة العشرين، ناهيك عن مكانتها الإسلامية ومقوماتها الاقتصادية الكبيرة. وبالتالي لا حاجة لمخاصمة هذه الدولة إن كانت هناك فرصة للتعامل معها وفق علاقات تحترم سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
قبل كل شيء لا بد من القول إن المبادرة إلى المصالحة مع مصر سجلت لصالح أردوغان، وسحبت من المعارضة التركية واحدة من أهم أوراقها، والتي تتمثل بانتقاد عداء “السلطان” للقاهرة وما جرّه ذلك من تداعيات على الدولة، أما حاجة أردوغان لهذه المصالحة فهي بلا شك تسجل للقيادة المصرية من خلال حسن استغلالها وإدارتها للظروف الإقليمية والدولية، لتدفع بالرئيس التركي إلى هذه الخطوة.
قد يكون للهدوء المصري في الانفتاح على تركيا أسبابه الدعائية والإعلامية، ولكن الدوافع السياسية أهم بكثير. فثمة شروط في المصالحة المرتقبة بين الطرفين يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وإلا سيقطف أردوغان الثمار وحده فيما تغرق مصر ومعها عدة دول عربية في متاهة وعود فضفاضة وغير عملية، أو تحصل في نهاية الأمر على نصف حلول لخلافاتها المتعددة مع الحزب الحاكم في أنقرة.
أول الشروط هو التدرج في المصالحة مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، وذلك من خلال تحديد الأولويات والمقابل المكافئ لكل خطوة. لا يوجد مبرر للمكرمات أو المنح لأردوغان ونظامه، ولا يوجد مبرر أيضاً للتسرع في أي خطوة مهما كان الظرف الدولي أو الإقليمي يستدعيها. وبقدر ما تتمكن القاهرة من تحديد أجندة التقارب بينها وبين أنقرة، بقدر ما تكون المصالحة ذات جدوى ومنفعة حقيقية.
تحديد مصر للأولويات في المصالحة الممكنة مع تركيا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار البعد العربي لها. فهذا البعد هو من أهم الأسباب التي دفعت بأردوغان إلى التقارب مع القاهرة. وبتعبير عملي دقيق، يجب ألّا تتجاهل القاهرة مصالح بعض الدول العربية في المصالحة المصرية – التركية، ويجب ألّا تتجاهل أيضا تلك المخاوف التي قد تثيرها دول أخرى إزاء تلك “الانتهازية” التي صبغت سياسة أردوغان الخارجية خلال السنوات الخمس الماضية، ولم يميز فيها أبداً بين صديق أو عدو.
من أكبر أخطار المصالحة أن تتمكن تركيا من شق الصف العربي تجاه القضية الجوهرية المتمثلة برفض التدخل الخارجي (الأجنبي) في الشؤون الداخلية. فقد تبلورت هذه الرؤية بشكل جيد خلال العامين الماضيين، وباتت تركيا تدرك أن إرثها العثماني لا يجعلها جزءاً من العالم العربي، ولا يقدم لها بطاقة تعريف تسمح لها بالتغلغل في القضايا العربية بذريعة “وحدة التاريخ والقيم” كما يروج أبواقها.
ثمة تحالفات نسجتها القاهرة خلال العامين الماضيين مع خصوم أردوغان على الضفة الشمالية من المتوسط زادت من الضغوط الاقتصادية والسياسية الداخلية على “السلطان” حتى جاء يخطب ود المصريين. لا بد من المحافظة على “شعرة معاوية” في هذه التحالفات مهما حدث، وإن أتيح للقاهرة تقريب المسافة بين أنقرة وخصومها الأوروبيين فهذا جهد يستحق بذله من السياسة الخارجية المصرية.
البعد الإقليمي في المصالحة المصرية – التركية مهم للغاية، وحجر الزاوية فيه منتدى الغاز الذي يجمع سبع دول منذ يناير عام 2019، وهو يتبلور اليوم كمنصة لتنظيم صناعة وتجارة هذه السلعة الإستراتيجية شرق المتوسط. أبواب هذا المنتدى يمكن أن تفتح أمام الأتراك بشرط عدم الاستخفاف بأية دولة عضو، وعدم الالتفاف على المنتدى كما تفعل أنقرة اليوم في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
البعد الدولي هو الآخر يجب أن تأخذه مصر بعين الاعتبار في رحلة المصالحة مع تركيا. فعلاقات أردوغان الخارجية منذ محاولة الانقلاب الفاشلة تنطوي على صدامات ونزاعات كثيرة مع عواصم صديقة وعدوة للقاهرة. وبالتالي من الضروري أن تبقى حدود استفادة “السلطان” من هذه المصالحة في إطار المعقول، ولا تتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات أو عقد الصفقات على حساب مصر والعرب.
ثمة أمر آخر من المفيد أن يأخذ حيزا في حوار المصريين مع الأتراك، وهو علاقة تنظيم الإخوان مع الحزب الحاكم في أنقرة. لا يجب الاستخفاف بهذه العلاقة ولا تهويلها أيضاً، وهو ما يتحقق من خلال ضمان محددين رئيسيين فيها. الأول هو اعترافها بأن التنظيم مصنف كإرهابي في عدة دول عربية، والثاني أن لا تكون أداة ابتزاز بيد تركيا ضد دول المنطقة كما هو الحال في تونس وليبيا مثلاً.
وعلى عكس ما قد يظن البعض، فإن مراعاة جميع الشروط السابقة لن تجعل المصالحة بين مصر وتركيا مستحيلة، وإنما فقط تضعها في إطارها وحجمها الطبيعيين. لن ينفع الإفراط في التفاؤل ولا المبالغة في التشاؤم في هذا السياق، فأردوغان طرق أبواب القاهرة مجبراً ولكن ليس صاغراً، وكما يقول الفيلسوف سقراط مع قليل من التصرف “إذا احتاج السلطان تواضع وتقرّب، وإذا استغنى تجبّر وتكبّر”.
بهاء العوام – صحافي سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة