النفوذ الذي يتمتع به نظام الأسد على تركيا هو السوريون والوقت. يمكن لدمشق دائما وقف إعادة اللاجئين أو تصعيب أوجه الحياة حتى لا يرغبوا في الرجوع بما يترك أنقرة في مواجهة المشكلة.
عامل الوقت في صالح الأسد
ربما توقع المرء تصريحات أكثر دفئا من بشار الأسد حول حالة العلاقات العربية خلال مقابلة نادرة أجراها الأسبوع الماضي. وكان قد حظي بترحيب حار في جامعة الدول العربية قبل ثلاثة أشهر. لكنه قال “ربما تكون هذه هي الطريقة التي نفكر بها… لكننا لا نتوصل إلى حلول عملية… نحن نفضل إلقاء الخطب والبيانات الصحفية والاجتماعات”. وذكر أنه من غير الواقعي توقع نتائج اقتصادية من العودة إلى الحظيرة العربية في غضون أشهر فقط.
وإذا كان هذا رأيه بخصوص أعضاء جامعة الدول العربية، فليس من المستغرب أن تكون وجهة نظره تجاه الرجل الذي تحتل قواته أجزاء من بلاده أسوأ بكثير. وقال إن هدف رجب طيب أردوغان يتمثل في اختلاق عذر لغزو تركي في سوريا. وقلّل بهذا من توقعات التقاء الرئيسين.
وسيكون استئناف سوريا علاقاتها مع تركيا الخطوة المنطقية القادمة على مسار العودة إلى نوع من العلاقات الدبلوماسية الطبيعية بعد الرجوع إلى جامعة الدول العربية (ستتطلب عودة “الحياة الطبيعية” داخل سوريا عدة سنوات).
النفوذ الرئيسي الذي يتمتع به نظام الأسد على تركيا هو السوريون والوقت. ويمكن لدمشق دائما وقف إعادة اللاجئين، أو تصعيب أوجه الحياة حتى لا يرغبوا في الرجوع، بما يترك أنقرة في مواجهة المشكلة
لكن هذه الخطوة تبقى أصعب بكثير من التي سبقتها. وليست سوريا في عجلة من أمرها لتحقيق التقارب مقابل رغبة تركيا فيه، كما يتضح من كلمات الأسد الرافضة. لكن بينما نجحت لعبة الانتظار والترقب في دفع جامعة الدول العربية إلى التطبيع، ستضر الفترة الطويلة التي لا يتحقق فيها إصلاح العلاقة السورية – التركية في النهاية بدمشق، وربما تغيرت الجغرافيا السورية بشكل دائم.
ويبقى الوقت في صف الأسد خلال الفترة الحالية. وكان أردوغان حريصا على إحراز بعض التقدم قبل الانتخابات التركية في مايو – أيار الماضي، حتى يتسنى له بعد ذلك تقديمه إلى الناخبين الأتراك كخطوات محتملة نحو حل أزمة المهاجرين السوريين الذين يوجد الملايين منهم في المدن والبلدات التركية.
لكن الأسد يرى أردوغان أقل محاور يحتمل أن يقابله، على الرغم من رغبة الرئيس التركي في تحسين العلاقات. وترشّح حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي لأردوغان ببرنامج شديد المناهضة لسوريا، وتعهد بتطبيع العلاقات مع دمشق بسرعة وإعادة اللاجئين إلى وطنهم.
ولا توجد حاجة كبيرة إلى التفاوض مع الأسد عندما تشنّ المعارضة التركية الأكثر ليبرالية ظاهريا حملة علنية لإعادة السوريين إلى بلادهم. ويمكنه ببساطة انتظار تغيير سياسي في أنقرة، أو الضغط من أجل البناء على ما وُجد في عهد أردوغان. وتزداد قوة يده التفاوضية بهذا، بينما يجسّد ضغط ملايين السوريين على الأراضي التركية أقوى أوراقه.
ويدرك أردوغان ذلك، مما يجعله أكثر صراحة في رغبته في مقابلة الأسد الذي لا يبدي نفس المشاعر. لكن خطه الأحمر هو نفس الخط الذي طرحه الأسد في المقابلة، حيث قال أردوغان مرّة أخرى الشهر الماضي إن القوات التركية لن تنسحب.
وتكمن القضية الرئيسية في الوقت الحالي في أن أنقرة لم تضع حتى الآن لعبة نهائية يمكن للأسد قبولها. ووفّرت فكرة أردوغان، التي شملت إعادة توطين اللاجئين السوريين على طول الجانب السوري من الحدود تحت حماية القوات التركية، فائدة مزدوجة تمثلت في تخفيف الضغط على المدن التركية الناجم عن ملايين المهاجرين وإبعاد المسلحين الأكراد السوريين عن الحدود.
سيكون استئناف سوريا علاقاتها مع تركيا الخطوة المنطقية القادمة على مسار العودة إلى نوع من العلاقات الدبلوماسية الطبيعية بعد الرجوع إلى جامعة الدول العربية
لكنها عانت من عيب رئيسي تمثل في اعتمادها على القبول الضمني لنظام الأسد. وبينما لم ير السوريون أي فائدة في مهاجمة تلك الجيوب لسنوات عديدة، كان قبولها في إطار الاعتراف الدبلوماسي نقطة شائكة. ويرتبط الأمر بطبيعة الحال برفض قبول القوات الأجنبية، ويتعلق جزئيا بقبول سابقة السماح بتواجد القوات التركية، مما يصعّب بدوره التخلص من القوات الأميركية التي لا تزال تحمي المناطق الكردية.
وأصبحت تركيا الآن حبيسة هذه الأوضاع. ويجب أن يتوصل نظام الأسد إلى تسوية مع أنقرة لهذا السبب بالتحديد. فعلى الرغم من صعوبة طرد الاحتلال التركي الآن، سيصبح الهدف أكثر استحالة بمرور الوقت.
وتعتبر أزمة اللاجئين السوريين قضية سياسية كبرى في تركيا، إلى درجة أنها كانت موضوعا رئيسيا في الانتخابات الرئاسية. ومع بقاء أردوغان في السلطة ربما لخمس سنوات أخرى، من غير المتصور أن يسمح للقضية بالتفاقم لفترة طويلة حتى تصبح مشكلة مُقحمة مرة أخرى. ويعني هذا احتمال التوصل إلى حل قد تسعى أنقرة إلى فرضه على دمشق خلال السنوات القليلة المقبلة. ومع تغير العلاقات مع روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، فقد تعني الظروف المحتملة قبول موسكو، التي تبقى الداعم الدولي الرئيسي للأسد.
وقد يكون كل هذا افتراضيا في الوقت الحالي، لكن النفوذ الرئيسي الذي يتمتع به نظام الأسد على تركيا هو السوريون والوقت. ويمكن لدمشق دائما وقف إعادة اللاجئين، أو تصعيب أوجه الحياة حتى لا يرغبوا في الرجوع، بما يترك أنقرة في مواجهة المشكلة. لكن إذا وجدت تركيا حلا لقضية اللاجئين، فسيؤدي ذلك إلى التغلب على مشكلة الوقت، حيث يمكن أن يرسّخ كل عام يمر الحل التركي.
ولم يكن على الأسد سوى الانتظار في ما يتعلق بقضية جامعة الدول العربية، حيث هيّأت عواقب تجارة مخدرات الكبتاغون السورية في النهاية ظروف التقارب. لكن هذه الظروف موجودة بالفعل مع تركيا. وقد يكون التأخير لمدة عام أو عامين ممكنا، لكن احتمال أن تفرض أنقرة حلها يزيد كلما طال انتظار دمشق التي سيصعب عليها بعد ذلك أن تنهي الاحتلال التركي.
فيصل اليافعي – كاتب ومحلل سياسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة