كان بين آخر الخطوات المشهودة لتشكيلي المعارضة السورية الرئيسيين، القيام بتبادل الرئيسين فيما بينهما، حيث صار رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة رئيساً للهيئة العليا للمفاوضات، وانتقل رئيس الأخيرة ليتولى رئاسة الائتلاف الوطني، ولم يشرح أحد منهما الأسباب التي تقف في خلفية هذه الخطوة، والتي لم تقابل باستغراب واستهجان الوسط السياسي السوري فقط، بل قوبلت باستنكار شعبي، وصل إلى درجة الشتيمة قولاً وعملاً في مظاهرات نظمها جمهور واسع في إدلب، غنوا فيها: «يلا ارحل يا ائتلاف»، في تقليد واضح لأغنية منشد الثورة الراحل إبراهيم القاشوش: «يلا ارحل يا بشار».
واقع الحال يؤشر إلى بعض ما وصل إليه الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات وعموم قوى المعارضة من تدهور وانحطاط سياسي وتنظيمي، وهو ناتج طبيعي لعاملين أساسيين؛ أحدهما يتعلق بوضع المعارضة على نحو عام، والثاني يتصل بالبيئة المحيطة بالقضية السورية في مستوياتها المحلية والإقليمية والدولية، والتي كانت الحيثيات المتصلة سلبية، بل إنها كانت كارثية خلال السنوات الماضية في أغلب الجوانب، إن لم نقل كلها، ما جعل المعارضة تصل إلى هذا المستوى من التدهور والانهيار والهوان أيضاً.
عندما قامت الثورة عام 2011، كانت جماعات المعارضة شديدة الضعف، ليس فقط نتيجة عيشها الطويل تحت سيف القمع والإرهاب والملاحقات، التي طبّقها نظام البعث بعد استيلائه على السلطة عام 1963، وتشدد حافظ الأسد وابنه من بعده في ممارستها في العقود الخمسة الأخيرة، وإنما أيضاً بسبب بُناها الآيديولوجية والسياسية والتنظيمية التقليدية من جهة وشيخوخة تنظيماتها وقادتها من جهة ثانية، خاصة بعد فشلها في التجاوب مع الحراك الثقافي والسياسي في سنوات ربيع دمشق 2000 – 2005 وسعيه لإحداث نقلات في واقع المعارضة ودورها، وتقصيرها في التجاوب الإيجابي مع مبادرات ومشروعات الإصلاح، التي اصطدمت بتشدد النظام ورفضه العملي للفكرة من أساسها.
وكان من الطبيعي وسط ضعف المعارضة السورية عند انطلاق الثورة، أن تبرز قوتان للمشاركة في قيادة الثورة. وهكذا ظهرت تنظيمات وشخصيات مستقلة من شتات السوريين العالمي الواسع، وظهرت شخصيات وتشكيلات من الحراك الثوري، وكان من الطبيعي، أن تتشارك القوتان مع المعارضة لإطلاق قوة مشتركة، تقود ثورة السوريين لتغيير النظام وتحقيق أهداف الثورة، لكن الظواهر المرضية، التي تنخر الجميع، منعت قيام شراكة عملية ومتوازنة على طريق النجاح، وهذا ما أثبتته تجربة المجلس الوطني السوري في 2011 – 2012، وأكدته لاحقاً تجربة الائتلاف الوطني، وقد سيطرت عليهما تشكيلات استئثارية، كان «الإخوان المسلمون» وتفرعاتهم رأس حربتها وسط دعم إقليمي ظاهر، الأمر الذي لم يؤدِ إلى عزوف بعض قوى المعارضة عن الانخراط في التجربتين فقط، بل إلى خروجات متتالية لشخصيات مستقلة وجماعات معارضة وتنظيمات ثورية من تجربة الائتلاف، ليصير في النهاية حكراً على لون واحد مرتبط بسياسات إقليمية معينة أكثر من ارتباطه بالقضية السورية، على نحو ما يبدو اليوم، وهي حالة تركت أثرها في تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات ومسارها، وجعلت من اليسير أن يتبادل رئيس الائتلاف ورئيس الهيئة العليا موقعيهما في الجهتين كما حصل مؤخراً.
إن المعارضة، سواء لجهة الائتلاف، أو لجهة تعبيرها العام، ممثلاً بالهيئة العليا للمفاوضات، التي تضم الائتلاف وهيئة التنسيق ومنصات القاهرة وموسكو ومستقلين، ما كان لها أن تصبح على ما هي عليه لولا تدهور البيئة المحيطة بعملها، التي يمكن القول إنها كانت سلبية من حيث مقدماتها ونتائجها في مستوياتها الداخلية والخارجية على السواء.
ففي الداخل لم يكن على المعارضة، أن تواجه نظام الأسد وحلفاءه المسلحين حتى أسنانهم فقط، إنماً أيضاً التشكيلات المسلحة، التي بدأت بظاهرة الدفاع عن المتظاهرين السلميين من جماعات الجيش الحر، ثم تطورت إلى تشكيلات عملت على أسلمة الثورة وتطييفها، ومن خاصرتها وبيئتها ولدت جماعات التطرف والإرهاب مثل «داعش» و«النصرة» وغيرهما، والتي لعبت دوراً في إضعاف وتهميش قوى المعارضة والحراك الشعبي والمدني في الداخل، وتصفية الجيش الحر، ما هيّأ الفرصة الفضلى لتكريس حالة الانفصال بين أكثرية السوريين والمعارضة.
وكانت التدخلات الخارجية بين العوامل المهمة في وصول المعارضة إلى ما هي عليه من نتائج، رغم كل ما يقال من دعم سياسي أو مالي أو عسكري قدّمه الخارج لقوى المعارضة، لأن أغلب الدعم لم يكن هدفه مساعدة المعارضة بتقوية نفسها وتحسين أدائها من أجل تحقيق أهدافها، بقدر ما كان هدفه السيطرة عليها، وتوظيفها في إطار حجز مكانة للمانحين في مستقبل سوريا، واستخدام قوى المعارضة ورقة في الصراعات الجارية داخل سوريا وفي محيطها الإقليمي، ولعل واقع حال شمال وشمال شرقي سوريا، بما فيه من قوى تخدم أجندات خارجية، تعبير واضح.
لقد ضيّعت المعارضة، وخاصة «جماعة الإخوان» وشقيقاتها، نفسها وقدراتها، عبر توافقها الآيديولوجي والسياسي مع دول وتنظيمات تجتمع معها في خانة واحدة، أو نتيجة ضغوط بعض الدول، أو بفعل ما اعتبرته «تقاطع مصالح» مع قوى إقليمية ودولية، وبذا فقدت مكانتها المستقلة في قضية تخصّها، وألحقت موقفها بأطراف لا تشكل القضية السورية محور اهتمامها وأساس مواقفها، بل كانت مجرد واحدة من قضايا، يمكن أن يتغير ويتبدل الموقف منها وفق عوامل متعددة.
وسط هذا الوضع المعقد للمعارضة، فقدت الأخيرة بجماعاتها وشخصياتها المستقلة مكانتها وأهميتها ودورها القيادي المفترض في القضية، وصارت في موقع ومكانة شكلية وهامشية، وللحقّ فإن ذلك من بين عوامل إطالة المعاناة السورية، لأن ضعف المعارضة أو هامشية تأثيرها أسقط ثقة الأطراف الإقليمية والدولية فيها وفي احتمال نجاحها في قيادة مرحلة ما بعد الأسد ونظامه.
إن ما آل إليه وضع المعارضة، بات يتطلب سلوكاً سياسياً جديداً من كل الأطراف المتصلة بالقضية السورية، المؤثرة فيها، والراغبة في الذهاب إلى حلّ للقضية، سلوكاً يتجاوز ما يحصل حالياً من شتم وتنديد وتشهير بالمعارضة على نحو ما يفعله أغلب السوريين، وفعالياتهم، وخاصة معارضي النظام، وأيضاً يتجاوز واقع التهميش والإضعاف الذي تمارسه أطراف مصنفة على قوى دعم المعارضة، ووقف حالة تجاهل المعارضة، التي تمارسها غالبية الدول الموصوفة بـ«أصدقاء الشعب السوري». فهذه السلوكيات جميعاً، تساهم في النتيجة ببقاء نظام الأسد، وتطيل زمن معاناة السوريين، وتكلف المجتمع الدولي مزيداً من الفواتير الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتناقض مصلحة الأطراف الراغبة في حلّ للقضية السورية، وتعيق إمكانية الحل وتجعل احتمالاته أبعد، ما يتطلب الحاجة إلى سياسات أخرى في التعامل مع المعارضة وجماعاتها، سياسات من شأنها تقوية المعارضة وإعدادها لدور مقبل في القضية السورية، وهو أمر من الصعب أن تقوم به الأطراف المنخرطة بالقضية السورية والمتدخلة فيها، حسب ما أكدته تطورات الأعوام الماضية، ما يؤكد الحاجة إلى طرف في خارجها للقيام بهذا الدور، ولعل الأمم المتحدة هي الطرف الأكثر حيادية والأكثر قدرة، والطرف الذي يملك إرثاً وتجارب وخبرات، وعنده مقاييس موضوعية، يمكن من خلالها إعادة تنظيم وهيكلة وتأهيل المعارضة السورية بشكل يتجاوز سلبيات تجربة جامعة الدول العربية عام 2012، ويفتح أمامها الباب للمساهمة في حلّ القضية السورية، التي لا شك أن حلّها يتطلب وجود المعارضة، وليس بالضرورة وجود النظام!
فايز سارة – كاتب وصحافيّ سوريّ – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة