لمجموعة فاغنر وجود في عدد من الدول الأفريقية ولكن الطبيعة المحددة لعملها مبهم.
شعبية واسعة
مع استقرار الأوضاع في روسيا بعد محاولة التمرد الجريئة التي أُجهِضت سريعًا، ما زال مكان مُدبِّر هذه المحاولة مجهولًا. فمن المفترض أن يكون يفغيني بريغوجين، الشخصية الفظة التي تدير مجموعة فاغنر شبه العسكرية، في بيلاروسيا.
وبمجرد إيقاف التمرد، بدأت الدول الأفريقية في التساؤل عن أثر ذلك العصيان على مقاتلي مجموعة فاغنر الموجودين داخلها. ودفع ذلك الكرملين إلى التحرك سريعًا لإسكات القيل والقال بشأن التغيير، وهو ما يثبت بدوره أهمية مقاتلي فاغنر في سياسة روسيا الخارجية.
وفي حديث له يوم الاثنين التالي للمسيرة التي توجّهت إلى موسكو ولم تدم طويلًا، صرَّح وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بأن المقاتلين سيظلون في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى طالما كانت هناك حاجة إليهم، فالعقود التي وقَّعها مقاتلو فاغنر هي في النهاية مبرمة بينهم وبين الحكومة. وفي الدول الأفريقية الأخرى التي تعمل فيها فاغنر، وإن كان بوضوح أقل، سيظل الحال كما هو عليه أيضًا.
يرجع ذلك إلى سبب بسيط، وهو أنه بغض النظر عن مدى غضب بوتين من رئيس مجموعة فاغنر، تحمل أنشطة المجموعة في أفريقيا قيمة كبيرة تحول دون تخلي الكرملين عنها. فقد يتغير اسم المجموعة أو قيادتها، لكن استخدام الشركات العسكرية الخاصة لتقديم الحماية والتدريب والقوة القتالية لحلفاء روسيا سيظل قائما. ربما قطع الكرملين رأس فاغنر، لكن أذرعها ستظل موجودة في أفريقيا.
مهما حدث في “الشأن الداخلي” الذي لم يدم طويلا في روسيا، سيستمر استخدام الشركات العسكرية الخاصة في القارة الأفريقية
لمجموعة فاغنر وجود في عدد من الدول الأفريقية يصل إلى اثنتي عشرة دولة، ولكن الطبيعة المحددة لعملها مبهم للغاية. ففي مالي، المجموعة متعاقدة مباشرةً مع الحكومة، وتشير المعلومات إلى أنها تدفع لها الملايين من الدولارات شهريًّا. وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، تعمل الحكومة الروسية مع الدولة، إلى جانب مجموعة فاغنر. وصرَّح الكرملين الأسبوع الماضي بأن العلاقات بين الحكومتين ستستمر، ولكن القرار يرجع إلى حكومة جمهورية أفريقيا الوسطى بشأن عقدها مع فاغنر. وللمجموعة أيضًا وجود غير معلن في بوركينا فاسو وليبيا والسودان وغيرها من الدول الأخرى.
إلى جانب المقاتلين، يبدو أيضًا أن فاغنر تدير عددًا من الشركات الأخرى، أو على الأقل تتعاون تعاونًا وثيقًا معها. ففي جمهورية أفريقيا الوسطى، تشتري شركة مرتبطة بفاغنر الذهب والألماس. وفي روسيا تشتري شركة أخرى الذهب من تلك الشركة الأولى، وتموِّل على ما يبدو المجموعات شبه العسكرية. وثمة علاقات مماثلة في دول أخرى توجد فيها قوات فاغنر.
هذا الغموض هو بالضبط السبب الذي يمنح مجموعة فاغنر أهميتها لدى الكرملين. فمع امتداد أذرعها بين العديد من الأهداف العسكرية والمصالح التجارية، تكتسب موسكو القدرة على التأثير في الدول والحفاظ في الوقت نفسه على إمكانية إنكار مقبول، بالإضافة إلى الاستفادة من ممارسات الأعمال غير الصريحة والهروب في الوقت نفسه من محاولات الغرب فرض العقوبات على الشركات والأشخاص. في الواقع، تُعد فاغنر إحدى أذرع سياسة موسكو الخارجية.
لا عجب إذن أنه مهما حدث في “الشأن الداخلي” الذي لم يستمر طويلًا في روسيا، وهو الوصف الذي أشارت به وزارة الخارجية الصينية إلى التمرد، سيستمر استخدام الشركات العسكرية الخاصة في القارة الأفريقية. (بل إن ما حدث ربما يفيد الكرملين. فبعد سنوات من الإنكار، اعترف بريغوجين أخيرًا العام الماضي بأنه العقل المدبر وراء فاغنر. وأيًّا كان مَن سيحل محله سيكون مجهولًا بقدر أكبر وسيتيح المزيد من إمكانية الإنكار).
لا شك أن التمرد سيمنح الدول التي تعمل فيها فاغنر بعض الوقت للتفكير. وقد تُفسَخ العقود مع الشركات العسكرية الخاصة بسهولة أو تُجمَّد أصولها في روسيا. فما من دولة تريد مجموعة من الرجال المسلحين المدربين يتجولون في أنحائها. وفي ما يخص المعتمدين بقوة على فاغنر، مثل رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى فوستان آرشانج تواديرا الذي وضع أمنه الشخصي ذاته في أيدي فاغنر، سيثير قيام علاقاتهم مع موسكو على هذا الأساس الواهي المخاوف.
فاغنر تواصل تأمين مصالح موسكو
لكن فوائد فاغنر تعود على الجانبين، ويبدو أنها تعجب الدول الأفريقية بقدر ما تعجب الكرملين.
ففي مالي، حيث تدخَّل مقاتلو فاغنر لسدِّ الفجوة التي نشأت نتيجة رحيل القوات الفرنسية، من المفيد وجود مقاتلين أشداء دون الحاجة إلى أي تعهدات جديدة بالولاء السياسي.
وفي ليبيا والسودان، حيث ظهر مقاتلو المجموعة على مدار السنوات الأربع الماضية، يمكن شراء واستغلال التأثير والخبرة القتالية، ولكن دون الارتداد السياسي الذي يصاحب الجنود الذين يحملون شارات دولهم.
هذا ما أكَّده مستشار مقرب من رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى عندما صرَّح قبل فترة لصحيفة “فاينانشال تايمز” بأن مقاتلي فاغنر موجودون في الدولة بمباركة موسكو. وأضاف “إذا قررت موسكو سحب أولئك المقاتلين وإرسال آخرين أيًّا كانوا، فسنرحب بهم”.
في ظل غموض أعمال الشركات العسكرية الخاصة الخاضعة للكرملين وسعي الدول الأفريقية لدعم قواتها المقاتلة دون لفت للأنظار، ستكون أي مجموعة شبه عسكرية تحمل أي اسم آخر مرحبًا بها بالقدر نفسه.
فيصل اليافعي – كاتب ومحلل سياسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة